الفوضى على الطريقة الأمريكية

حاتم الطائي

◄ أمريكا تسعى دائمًا لإحداث الفوضى وترفض الاستماع لنصائح الأصدقاء

◄ عُمان تستنكر العدوان على اليمن.. وتندهش من الصمت تجاه جرائم إسرائيل في غزة

◄ العدالة الدولية أمام محك تاريخي.. إما إدانة الاحتلال أو الخضوع للقوى الغاشمة

كشفت الولايات المُتحدة ومن ورائها بريطانيا العجوز ومن يدور في فلكيهما، عن النوايا الخبيثة التي تُضمرها لمنطقة الشرق الأوسط، ورغبتها الأكيدة وإصرارها الشديد على نشر الفوضى في أنحاء الإقليم، الفوضى المُدمِّرة التي تقضي على حكومات وشعوب المنطقة بنيران الحروب وتأليب الرأي العام على الحُكام، في المُقابل تربح أمريكا من مبيعات السلاح وعقود شركات المرتزقة وشركات ما يُسمى بإعادة الإعمار، ليجنوا المليارات من أقوات الشعوب المُستضعفة.

مراحل الفوضى الأمريكية في الشرق الأوسط بدأت قبل عقود طويلة، لكنها بلغت ذروة غير مسبوقة وتهديدا بالغ الخطورة بإشعال حرب إقليمية كبرى، لن تُبقي ولن تذر، وستكون سببًا في اشتعال جبهات مُتعددة، لن تقوى الولايات المتحدة ولا أيٍ من حلفائها الغربيين على احتواء نيرانها الحارقة. ولنا أن ننظُر إلى الأوضاع المأساوية في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المُحتلة، وإلى أي مدى بلغ حجم الإجرام الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني. ففي الوقت الذي تشن فيه دولة الاحتلال الإسرائيلي حرب إبادة جماعية على قطاع غزة، تُعرقل الولايات المُتحدة جهود إنفاذ القانون الدولي وتعمل على إبطال دور مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة في إحلال السلام العالمي، من خلال ما يُسمى بـ"حق النقض (فيتو)"، فلأول مرة في التاريخ الإنساني تعترض دولة على قرار لإيصال مساعدات إنسانية ووقف إطلاق النَّار في منطقة حروب، في فضيحة جديدة تُضاف إلى سلسلة الفضائح المدوية وتؤكد حجم العار والخزي الذي يُلاحق الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة جو بايدن، الذي يجب أن يُحاكم بتهم ارتكاب جرائم حرب في غزة، بما يُقدمه من دعم عسكري لا محدود ومساندة اقتصادية وغطاء سياسي دولي، لكي يسمح لإسرائيل بمواصلة عدوانها ومخططها الجهنمي لإبادة أكثر شعوب الأرض تعرضًا للظلم التاريخي على مر العصور.

الولايات المتحدة لا يُهمها سوى إحداث الفوضى في الشرق الأوسط، ولا تستمع لنصائح أصدقائها، ولا أدل على ذلك من تصريح معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية، تعقيبًا على العدوان الأمريكي البريطاني على اليمن الشقيق؛ حيث أكد قلقه العميق "تجاه الهجمات الأمريكية البريطانية على أهداف في اليمن"، وأن "هذا يتعارض مع نصيحتنا (للولايات المتحدة)، وسيصب مزيدًا من الزيت على موقف خطيرٍ للغاية. إنَّني لأحُثُ جميع الأطراف على ضبط النفس، والتركيز على وقف إطلاق النار في غزة الآن". تصريح معاليه يضعنا أمام حقيقة دامغة وواقع مُشرِّف لكل مواطن عُماني، لما تبذله سلطنة عُمان من جهود حثيثة لنزع فتيل الأزمة وتجنب اشتعال المنطقة؛ حيث إنَّ الاتصالات العُمانية لم تتوقف منذ اندلاع الحرب في غزة، وبدء إسرائيل عدوانها الهمجي البربري على القطاع، وقد تجلّى ذلك بوضوح في جميع البيانات التي أصدرتها سلطنة عُمان والتصريحات التي أدلى بها معالي السيد وزير الخارجية. وكل ذلك يؤكد لنا الموقف العُماني النزيه والداعم للحق والمؤيد للسلام، وأن عُمان لا تخشى في الله لومة لائم، وتصدح بالحق مهما كان الثمن؛ لأنَّ الدبلوماسية العُمانية ترتكز على ثوابت وطنية راسخة، لا تقبل المساومة ولا ترتضي الهوان أو الصمت، بل الجهر بأعلى صوتٍ لإعلاء كلمة الحق. وعندما نقرأ بيان وزارة الخارجية حول العدوان الأمريكي البريطاني على اليمن، نجد أنَّ عُمان استنكرت بشدة "اللجوء لهذا العمل العسكري من قبل دول صديقة، بينما تتمادى إسرائيل في قصفها وحربها الغاشمة وحصارها لقطاع غزة دون حساب أو عقاب"، وهنا عُمان لم تخش من أن تشير إلى هذه المُفارقة الصارخة، التي تُؤكد انتهاج سياسة الكيل بمكيالين، فكيف لدولة مثل أمريكا أن تلجأ لعمل عسكري نتيجة لتحركات اليمن في دعم المقاومة في غزة، في الوقت الذي تشن إسرائيل عدوانًا غاشمًا وحصارًا قاتلًا لقطاع غزة، دون محاسبة أو عقاب؟! إنها لمُفارقة يُندى لها جبين الإنسانية، ودليل دامغ على المعايير المزودجة التي تنتهجها أمريكا لحماية إسرائيل الكيان المارق القاتل.

تصريح معالي السيد وزير الخارجية كذلك يحمل في مضامينه نقطتين بالغتي الأهمية؛ الأولى: أن عُمان لم تكن تتوقع هذا التصرف من "دولة صديقة"، وثانيًا أن واشنطن لم تستمع للنصيحة العُمانية؛ حيث يكشف التصريح أنه لأول مرة أسدت عُمان نصيحة خالصة للولايات المتحدة بعدم اللجوء للعمل العسكري وقصف اليمن، ومع ذلك فإنَّ العنجهية والغطرسة الأمريكية تجاهلت الحكمة العُمانية الصادقة، وتغافلت تمامًا حقيقة أن الحكمة العُمانية تترجم الواقع على الأرض، ببصيرةٍ نافذة للمستقبل قلّما نجدها حاليًا.

من المؤسف القول إنَّ الولايات المتحدة لا تتعظ أبدًا، ولم تدرك حتى الآن أن الحلول العسكرية لا تجلب السلام؛ بل تتسبب في الخراب والتدمير والقتل. ولم تشفع حروب أفغانستان والعراق، ومن قبلهما حرب فيتنام، للولايات المتحدة أن تتعلم من دروس الماضي وأن تتوقف عن مواصلة تأجيج الصراعات من أجل تنشيط مبيعات السلاح لديها ومن ثم المحافظة على نموها الاقتصادي، فأيُّ نموٍ هذا الذي يتحقق بدماء الأبرياء، وسط صرخات الثكالى والأرامل وأنين العجزة، وبكاء الأيتام؟! أيُّ نمو ترتضيه الولايات المتحدة بينما الشعوب المكتوية بنيران الحروب التي أشعلتها، يقبعون في العراء دون مأوى أو طعام أو علاج.

لقد كشف العدوان البربري الإسرائيلي على غزة أن هذا الكيان المارق يقود ويتحكم ويُسيطِر ويُهمين ويستحوذ ويُحرك الإدارة الأمريكية، سواء كانت تحت حكم الديمقراطيين أو الجمهوريين، فالحمار لا يختلف عن الفيل، والاحتلال يسوق كليهما لأجل مصلحته وإشباع رغبته الدموية في زهق أرواح الشعب الفلسطيني المظلوم والمُهدر حقه.

لكن ما زال الأمل في تحقيق العدالة قائمًا، فبعد المرافعة التاريخية التي قدمتها دولة جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية متهمةً إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، معززة ملفها القانوني بالأدلة والبراهين والقرائن والحقائق الدامغة التي تُثبِت ارتكاب الاحتلال جريمة الإبادة الجماعية. في المُقابل، وجدنا كيف أن كيان الاحتلال يرتعد خوفًا ويرتجف من تبعات هذه المحاكمة التاريخية، حتى إن رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو يهزي بعدم اعترافه بمحكمة العدل الدولية، وأن أي قرار صادر عنها لن يُنفذه، في خرق واضح وانتهاك جسيم وغير مسبوق لأعلى سلطة عدل دولية في هذا العالم.

ويبقى القول.. إنَّ الفوضى التي تُريدها أمريكا تستند على إشعال الحروب وتأجيج الفتن وإيجاد الذرائع لهدم الدول وإفقار الشعوب، والوضع الحالي يُنذر بعواقب بالغة الخطورة، ويهدد المنطقة والعالم بتداعيات لم يسبق لها مثيل إذا ما اشتعلت حرب إقليمية كبرى تتسبب فيها الولايات المتحدة.. ومن هنا فإنَّ على عقلاء العالم أن يستمعوا لصوت الحكمة، صوت عُمان الداعي لوقف إطلاق النَّار في غزة فورًا، وبدء مسار تفاوضي لإحلال السلام الشامل والدائم، ومعاقبة إسرائيل على جرائمها البشعة بحق الشعب الفلسطيني، وتسوية كل الملفات الأمنية في الشرق الأوسط، حتى تنعم شعوبه بثمار التنمية، وتعيش المنطقة في وئام واستقرار.