رسالة لسفراء واشنطن في المنطقة

 

د. عبدالله باحجاج

في هذه الرسالة نطرح على سفراء واشنطن في منطقتنا، تساؤلات عاجلة؛ أبرزها الآتي: هل تفكرون في مصالح بلادكم الاستراتيجية في المنطقة على مدى العشرين سنة المقبلة؟ هل تنقلون في تقارير صادقة لواشنطن حالة الغضب الشعبي وتحوله المتنامي إلى الكراهية؟ ألَا تخشون من تأطير "الغضب/ الكراهية" وانتقالها إلى المساس بالمصير الوجودي لواشنطن في المنطقة؟

كمتابعٍ لانعكاسات الانحياز الأعمى من واشنطن للصهاينة، ومنحهم الضوء الأخضر المفتوح لتنفيذ جريمة الإبادة الجماعية في غزة، فإنَّ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لا تفكر في مصالحها ومستقبل وجودها في المنطقة، أو أنها تراهن على ديمومة العلاقة التاريخية مع الأنظمة السياسية فحسب. وهنا نؤكد أنه ليس هناك ضمانة؛ فالشعوب في المفهوم الدستوري هي أحد الأركان الأساسية للدول، ولن يكون من مصلحة الأنظمة الوقوف ضد شعوبها طويلًا، وإن فعلت، فلن يكون في ذلك استقرارها. والمتأمل في مواقف بعض الأنظمة منذ بداية العدوان الصهيوني على غزة وحتى الآن، التماهي الفريد من نوعه مع شعوبها، وفي المقابل نجد العكس.

كما إن على واشنطن أن لا تستبعد من حساباتها سيناريو استنهاض الجماعات الآيديولوجية في كل دول المنطقة، فكل جماعة ترى واشنطن الآن عدوة ومُجرِمة، وتتحمل تبعات المذابح الدموية في غزة، وإذا ما طال العدوان واستمرت المذابح وتعددت واتسعت، فليس هناك ضمانات بعدم الانتقال إلى الفعل، خاصة وأن هذه الجماعات قد أصبح نجاح الجماعات المسلحة الآيديولوجية في أفغانستان والعراق وغزة واليمن يشكل لها حالة إلهام- كما أوضحنا ذلك في مقالنا السابق المعنون باسم "المرحلة التالية.. تجاهل التحولات السيكولوجية للشعوب"- وربما هذا يتوقف كذلك على قدرة الأنظمة على احتواء الحالات الوجدانية لهذه الجماعات، وأن تكون مواقفها مُنسجمة معها، وبخلاف ذلك، فإن بلورة حالة الإلهام سالفة الذكر لن تتأخر طويلًا.

الرئيس بايدن وإدارته في حالة اللامبالاة لانعكاسات وحشية العدوان الصهيوني ومذابحه على سيكولوجيات شعوب وجماعات المنطقة، وعلى دور بلاده في هذه المذابح، ويبدو أن السفارات الأمريكية لم تنقل هذه الانعكاسات، أو أنها تنقل، لكن ليس كما هو واقع. ولو كانت تنقل الواقع بصفة مجردة، لدقّت ناقوس الخطر على مستقبل المصالح الأمريكية؛ بل الوجود الأمريكي في المنطقة، وحتى داخل فلسطين المحتلة بخلاف غزة، لم تقدر التقارير الأمريكية تطورات الأوضاع حق قدرها. فمثلًا، الأوضاع في الضفة الغربية بسبب الحملات الصهيونية في تنفيذ الاغتيالات والقمع، وتدهور الحالة الاقتصادية ووضعها الإنساني، فإن مستقبل السلطة الفلسطينية يشهد تهديدًا وجوديًا غير مسبوق، وكل السيناريوهات في الضفة قائمة الآن، كما إن كل الاحتمالات قائمة على الجبهة اللبنانية، وكما قلنا في مقال سابق، إن المنطقة مرشحة للانفجار.

وثمة تساؤل آخر.. وهو: ماذا تتوقعون من انعكاسات آنية ومستقبلية في فلسطين وغزة خاصة، ومن ثم في محيطها الإسلامي والعربي عامة؟

إن المذابح والإبادات الجماعية تُشكِّل الذهنيات العامة، وهي الآن في طَوْر التشكُّل والتلوُّن، ومن ثم الظهور، ولنا في شهادات منظمة الصحة العالمية ما نقدمه هنا كاستدلال على الانعكاسات السيكولوجية على الشعوب الإسلامية والعربية؛ حيث تصف مشاهد مروعة للقصف الصهيوني الوحشي على مخيم المغازي قبل أيام، نختار منها مشهد طفل وممرض فقدا عائلتيهما بأكملهما في القصف.. وبحسب وزارة الصحة في غزة فقد استُشهِد ما لا يقل عن 70 شخصًا وبجانب 100 جريح في القصف الصهيوني، ووُضِعَت عشرات الجثث داخل أكياس بيضاء بجوار بعضها البعض على الأرض بانتظار دفنها.

وتلكم المشاهد المُروِّعة تتكرر كتداعيات للعدوان منذ أكثر من 88 يومًا، فهل لدى إدارة بايدن رؤية بانعكاساتها على مستقبل خارطة العنف والكراهية في المنطقة؟ ومما يعجل بهذا المستقبل المظلم فتاوى الحاخامات اليهود باستباحة قتل الأطفال والنساء في غزة دون رحمة، زاعمين أنَّ ذلك من تعاليمهم التلمودية! وهم لا يقذفون بهذه المواقف في البحار أو في مجتمع مغلق؛ بل في محيطات اجتماعية تفاعلية عبر العالم، ستسهم في صناعة مرحلة العشرين سنة المقبلة. ونرى أن السفارات الأمريكية في المنطقة لا تقوم برصد دقيق وتحليل عميق للتطورات وتفاعلاتها ومستقبل نتائجها كما يجب، ولو فعلت لرأينا نتائج لن يختلف عليها أحد؛ أبرزها:

أن المنطقة تتغير فيها الكثير من المفاهيم والرؤى بصورة راديكالية، وتشهد تحولات كبيرة خلال 88 يومًا فقط، مثل: التقاء آيديولوجيات المنطقة، وعودة تديين الصراع مع الكيان الصهيوني، وبروز النصوص الإسلامية كالجهاد، وإزالة الكيان، والنصر المحتوم، كما أصبحت المنطقة معها تعود سيكولوجيًا وعاطفيًا إلى المربع الأول قبل أكثر من 50 سنة ماضية. واللافت هنا، أن تديين الصراع قد أصبح يؤطِّر ذهنيات الأجيال الإسلامية والعربية الجديدة، وهذا كفيل بفشل مساعي الصهاينة بتغيير المناهج وحذف المفاهيم والمصطلحات التي تعاديهم.. إلخ.

ينبغي أن يعلم سفراء واشنطن في المنطقة أن الانحياز الأعمى للرئيس بايدن وإدارته، ووقوفهم السافر مع الصهاينة في مذابحهم، قد استعدَتْ الأجيال الجديدة، ونخشى على مناعة المنطقة من العنف والإرهاب، وأن تتبخر نتيجة هذا الغباء الأمريكي. وما نرصدُهُ من تأييد شعبي لجماعة أنصار الله في اليمن بعد استهدافهم الكيان الصهيوني بالصواريخ، وضرب السفن الصهيونية وتلك المُتجهة إليهم، وهذا يعد أكبر المؤشرات على انتهاء حقبة المناعة، وستتسارع كلما طال أمد العدوان ووحشيته ومذابحه.

وربما تشعر مؤسسة "إيماكنت إسبو" الصهيونية، بالقلق من تلكم التحولات الكبرى في المنطقة؛ لأن مستقبل جهودها في تغيير المناهج الدراسية يشهد الآن انتكاسة تاريخية، بعدما نجحت في دول بعينها بامتياز، وهذه المؤسسة مُتخصصة ومسؤولة عن تغيير المناهج ووضع مناهج جديدة. وهنا نصر آخر لطوفان الأقصى، يتجلى لنا في إفشال مساعي الصهاينة، والانتصار لمسار تديين الصراع مع العدو؛ فالضمانة الآن الأجيال الجديدة التي أصبح صوتها أعلى من الأجيال الحالية، وهى التي ستشكل مرحلة العشرين سنة المقبلة.