ماجد المرهون
يُحاول مُعظم النَّاس تفادي الوقوع في الغضب بإتقاء مسوغاته وتدارك مسبباته لتجنب ما يعود به على النفس من أذى قد يؤهل صاحبه للدخول في طورٍ عصبي عارم يحرض مشاعره المتأججة على الرد بقصد الانتصار لنفسه واسترضائها أو التشفي في حال عدم القدرة على كبح جماحها بردعها، وقليلٌ من يتمتع بهذه الصفة؛ حيث باتت تمثل الضعف والهوان وربما الاستنقاص من الشأن خصوصًا في وقتنا الراهن الذي كثرت فيه علل الغضب وبواعثه السلوكية والمطالبة باسترداد الحقوق حتى المعنوية منها، كما أن "من استُغضب ولم يغضب فهو حمار" بحسب قول الإمام الشافعي.
بالطبع لا نقصد هنا معنى "الزعل" السائد جدًا والذي قد يقع بشكل شبه يومي في مُمارساتنا الحياتية وتعاطينا مع أعضاء المجتمع وربما هو أقرب للاعتراض، ويعتريه شيء من الضعف في إبداء صورةٍ من صور عدم الرضا، وغالبًا ما يستخدمه من أحس بتقاعسٍ في تلبية رغبةٍ أو مراد؛ كطلب الطفل الذي لم يتحقق، أو موقف يتخذه الإنسان لقياس مكانته عند الطرف الآخر، وهو غير ذي لياقة تامة للرجل الراشد في غور مفهومه حسب وجهة نظري القاصرة إلّا في حال ما درج عليه المفهوم العام؛ كإبداء عدم الرضا التام أو الامتعاض من أمر ما أو شأنٍ من الشؤون، وغالبًا ما ينتهي بتسطيح الضرر عند التفهم والاعتذار بعد شيءٍ من التوضيح المسبوق بالانتقاد أو العتاب، ويستدرك الشافعي هنا بقوله: "ومن استُرضيَ ولم يرض فهو شيطان".
وحتى لا نغرق كثيرًا في التحليل النفسي للغضب والفوارق بين درجاته والتفاضل في تباين تأثيره أكثر أو أقل بين شخص وآخر، فإني أدغم المعاني السابقة في الاكتفاء بمفهوم الغضب المتعارف عليه وإمكانيات تجنبه قبل حدوثه أو التقليل من أضراره عند وقوعه، ولكن ما بال مصدر الغضب أو من يعكف على افتعال الأسباب لإغضاب غيره وبشكلٍ دائمٍ ومستمر؟! لا شك أنه لئيم ويهدف لأغراض معلومة لديه لما وراء ذلك الافتعال.
قد يُسامِح الحكيم إذا استُغضب وهو تمالك العاقل نفسه ويمررها الحليم لأكثر من مرة كابحًا جماح شر غضبه، ولكن وما هو حال المرء عندما يُستغضب لعشرات السنين في ماله وحاله وعرضه حتى يُجبر على الوقوع في براثن الحقد؟! وهل يُسترضى إلّا بردِ اعتباره من خلال سعيه في الانتقام جراء إمعان العصابي اللئيم في القتل وانتهاك كل مُحرّمٍ وممنوع؟!
إنَّ لغة ضبط النفس في مثل هذا الموقف المثخن بالفقد لن تجدي نفعًا ولن يشفي مشاعر المظلوم إلا التشفي ولن يطفىء تلظي نار المكلوم إلّا الثأر، وقد غادرت الحكمة مسارح الجرائم التي رفع الاحتلال ستائرها أمام جماهير العالم المتفرج، ولم يعد للحلم موضع سوط في أرض أوغر طهر طينها آلاف الأطنان من القنابل المصممة لإحداث أكبر ضرر في مستقر الساكنين والبنيان من الباغي المستبد المتحصن بهالة الطغيان والمحاط بقوة من هيلمانٍ افتراضي وحارب بهما عن بعد فما لبث عواره أن بان عندما قرر الدخول الواقعي للحرب عن قرب ولم يكن لمسافة الصفر في تقدير العارفين حسبان.
إنَّ مرحلة الوضع مع المقاومة الفلسطينية قد تجاوز ضبط النفس بمراحل ونازل مقاييس الحكمة ومعايير الحلم بمنازل، ونُصبت عند نقطة اللاعودة موازين "العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص"، وإنها الحرب مع عدو لا يقيم لأخلاقيات الحروب وزنًا ولا يعير للآداب والسلوك اهتمامًا، وإنْ أوهم العالم بالمصطلح المستهلك لـ"الإرهاب"، والحق المنتحل للدفاع عن النفس، وإلحاقًا بما عُرِفَ به من غدرٍ ونكثٍ للعهود والمواثيق عبر تاريخه الكاسف الموغل في المكر والغش والخداع، ويكاد لا يوجد في غزة اليوم إنسان حي ليس له مطلبةُ دمٍ أو ثأر في عنق الكيان الصهيوني المُحتل، ولا تزال الإدارة الأمريكية تراوغ مع ربائبها اللاتي في حجرها بعروض النقض مع إبداء التعاطف وصفقات التبادل مع الامتعاض والهدن بتواريخ صلاحية مع الاستمتاع بتمويل القتال غير آبهةً بسقوط عشرات الآلاف من الأبرياء ولا بالضرر النفسي والمعنوي الواقع على أهل الدم ولا بحجم الدمار الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب.
لماذا غضب الإنجليز عندما كانت الطائرات النازية الألمانية تقصف مدنهم وتقتل المدنيين وتحاصرهم بإغراق سفن المُساعدات الغذائية الأمريكية لمدة عامين ولم يغضبوا للفلسطينيين الذين تُمارس عليهم النازية الصهيونية نفس الدور؟! لأن الأمر ليس في معرض التسامح مع المعتدي ولابد من ردعه بالانتقام ولم يتردد ونستون تشرشل في ذلك ولم يمارس عليه أحد حقاً من حقوق النقض أو الاعتراض، لكنه لا يستقيم في حالة فلسطين "فالأمر مختلف" كما يقول ديفيد كاميرون وزير الخارجية البريطاني، وكذلك هو الحال حين أحدث انتحاريو الكاميكاز صدمةً عظيمة في الأسطول البحري الأمريكي وقصفت القوات الجوية اليابانية ميناء بيرل هاربر، فلم نعلم ولم نسمع بمبادرات صفقات تبادل أسرى أو وقف لإطلاق النار لينفس هاري ترومان عن غضبه برد الصاع صاعين بالانتقام من مئآت الآلاف من المدنيين اليابانيين الآمنين والطمس دون تردد بأسلحة الفتك الذرية في لمح البصر ثم تقام الاحتفالات الوطنية والأهازيج المنتشية بالانتصار على جثث النساء والأطفال والشيوخ وما أشبه الحاضر بالماضي واليوم بالأمس "وما يهمنا فقط هو عدد الخسائر في صفوفنا" كما قال كولن باول وزير الخارجية الأمريكي.
تحاول الإدارتان الأمريكية والبريطانية إبهام عارهما باستخدام بصمة إبهام طوفان الأقصى دليلًا لإثبات صفة الاعتداء وقد اعتادوا على التدليس وقلب الحقائق، ولكن في مقاييس الحرب ما هي إلّا عملية عسكرية ضمن المعارك الدائرة منذ 103 أعوام والتي بدأ بها الاحتلال البريطاني وأكملها الإسرائيلي الصهيوني بدعم أمريكي ولازالوا يفعلون؛ إذ إنَّ تعطشهم للقتل لا رواء له ويعتاشون بشرب الدماء ولا يرتوون كالْهِيم لا يرويها الماء، وإننا لنجد العذر كله؛ بل الحق كاملًا للفسطينيين عمومًا وأهل غزة خصوصًا، في مقاومتهم الشريفة لنيل حريتهم ضد المتسلطين الطغاة والاقتصاص لدماء قتلاهم الأعفَّاء، وهو حق أقرته كل الشرائع والحضارات القديمة والحديثة والمجتمعات والقوانين والأعراف.
إنَّ ما يظهر إعلاميًا من شدٍ وجذب بين الإدارة الأمريكية والإسرائيلية ما هو إلّا "زعل" أحباب على خلافات سطحية في التعاطي اليومي مع الأحداث، وستنتهي باتصال هاتفي معاتب أو جلسة صباحية لاحتساء كوب شاي في شرفة البيت الأبيض المطلة على الحديقة الجنوبية باعتبارهما "على قلب واحد" حسب الكنيسة اللوثرية، ووفق مصلحةٍ وهدفٍ مشتركين باعتبار قانون المؤسسين الإنجيليين، وعلى النقيض من ذلك في خلافاتهم مع عدوهم الأزلي من المسلمين والفلسطينيين وأهل غزة المغدور بهم والمُضحّى بإنسانيتهم وبدماء أبريائهم، وقد صبروا كثيرًا وصابروا ولا زالوا يفعلون، إلّا أن "للصبر حدود" ولن يبقى الحكيم والحليم كذلك أبدًا، وهو يُستغضب كل يوم ويُستكره على الرد والانتقام والثأر، ويبدو أن الأوان قد آن "وفي يوم من الأيام سيُغادر المحتل"، كما قال المؤرخ والفيلسوف البريطاني أرنولد توينبي.