قصة "غزة والضبع المجنون"

 

مسعود الحمداني

samawat2004@live.com

 

"غزّة"، وما أدراك ما "غزّة".. فتاة في مقتبل العمر، جميلة، عظيمة، مهيبة، تزوجت "الهمّ" صغيرة، وأنجبت أكثر من مليوني شهيد، تعيش بمعزل عن العالم مع أولادها، رغم أن لديها أكثر من عشرين أخًا يعيشون حولها، ولكنهم يقاطعونها؛ لأنها خرجت عن إرادتهم، و"عرّت" شرفهم، تخرج كل يوم لتلتقط رزقها، وتروي عطش أطفالها، وتسقي زرعها، لكي تبقى قوية متماسكة، إمكاناتها ضعيفة، ومواردها شحيحة، ولكن إرادتها لا تُقهر، وعزيمتها لا تُهزم، تنام في كثير من الأيام في العراء دون طعام، تقاسم الشمس نورها، وتفترش أديم الأرض، وتلتحف غيمات السماء، ليس لديها هَم سوى الحفاظ على كرامتها، وشرفها.

تخلّى الجميع عنها، ونسوا أمرها، واعتبرها إخوتها فتاة مارقة، لا تستحق اهتمامهم، فضاقت عليها الأرض بما رحبت، وهي تشاهد إخوانها يهرولون نحو "الضبع" الغريب الجائع الذي جاء مع عصابته من أصقاع الغابة، فالتَهَمَ حقها، وسرق أرضها وبحرها، ونهب لقمة عيشها، وسكن في مساكنها، وظلمها ظلما كبيرًا، وعاث في الأرض الفساد، وها هو يقف مع قطيع من عصابته على حدود أرضها، يُهدد أمنها، ويقتل أطفالها دون هوادة، ويتحكّم في رزقها وعملها، ويعتدي على أبنائها، وبناتها، ويحيطها بسياج ضخم من الصخر والأسلاك، لديه سلاح فتاك، وجنود مدججين بالأنياب، شرسين، لا يعرفون الرحمة.

ورغم ذلك بدأ إخوان "غزّة" يتخلون عنها واحدًا واحدًا، ويهرولون لأحضان الضبع، لم تستطع أن تتحمّل كل هذا الألم، لم تعد تطيق هذا الحصار الذي فرضه عدوها عليها، وهذا التجويع، والترهيب، والقتل، والدمار اليومي، فأخذت سلاحها البسيط، ومضت مع مجموعة من أولادها، ودخلت إلى مضجع الضبع، ومارست حقها في الدفاع عن نفسها، العين بالعين، والنفس بالنفس، وقتلت عددًا من المجرمين المعتدين، والذين أتوا من كل غابات وجبال الدنيا، ليسكنوا بجوارها، ويستولوا على أرضها، ويقيموا منازلهم على جماجم أبنائها، حاولت أن تدافع عن نفسها وشرفها، وأن تلفت نظر "ملوك الغابة"، ونظر إخوانها لقضيتها المنسيّة، فيرحموا ضعفها، ويردوا حقوقها المسلوبة، ويثأروا لكرامتها، وتهتز فيهم شعرة النخوة، والقربى، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان.

هاج الضبع وماج، استدعى كل ضباع العالم، وصرخ بأعلى صوته، وبكى واستبكى، ورعد وأبرق وأزبد، وبدأ هجومًا لا مثيل له- ومعه أصدقاؤه الضباع الكبار- دون رحمة على "غزة".. أباد الصغار، وقتل الكبار، وأخرج الأطفال من أحشاء أمهاتهم، وأحرق الزرع والضرع، وهدّم البيوت على رؤوس ساكنيها، وأباد النساء، ولم يسلم من صرعه وخلله العقلي صغير ولا كبير ولا أرض ولا ثمر، أبادهم كلهم، بينما وقف ملوك الغابة يتفرجون على المشهد، ويصفقون لكل مذبحة، وشاهدت "غزة" أخوتها مبعثرين، يكتمون ضحكاتهم في العلن، ويطلقونها في الخفاء، يهرولون- على استحياء- لوقف جنون الضبع، ويتسوّلون من المجرم وقف القتل، وأن يسمح لهم بإدخال صهريج ماء، أو حزمة غذاء، أو مناديل طبية لتنشيف دم الجرحى، ولا يفعلون أكثر من الصراخ، والعويل، ولا يوفّرون حفلًا، ولا مؤتمرًا ولا اجتماعًا دون أن يحمّلوا أختهم المسؤولية عن المجازر التي حصلت لها، تمامًا كما يفعلون- بخجل- عند إدانة القاتل، فساوُوا بين الضحية والجلّاد، ورغم كل المآسي والدمار وصور الأشلاء وركام الأنقاض، ظلّت "غزة" صامدة في وجه المجرمين، تُعلّم العالم دروسًا في الكرامة والشرف والنخوة التي افتقدها حتى إخوتها الكبار، وستخرج يومًا من الرماد كما تفعل العنقاء من رحم النار.

تحوّلت قصة "غزّة والضبع" إلى حكاية أسطورية تسردها الأمهات لأطفالهن قبل النوم في كل العالم، لا ليناموا، ولكن ليستيقظوا من سباتهم العميق، ويسخروا من خرافات الضبع وأصدقائه القتلة الفاشلين، المُلطخة أياديهم بدم الأطفال والنساء، وأصبحت "غزة" رمزًا للصمود والشرف والكرامة التي افتقدها معظم العالم، وكثير من إخوانها البائسين.