محطات لندنية (1)

 

د. سعيد بن سليمان العيسائي

كاتب وأكاديمي

كانت زيارة بريطانيا وتحديدًا لندن، حُلمًا تأخر كثيرًا لسنواتٍ طويلة لأسبابٍ منها أن الظروف لم تكن مواتية للقيام بهذه الرحلة.

بدأ هذا الحُلم من أواخرِ السبعينياتِ من القرنِ الماضي عندما توفرت ظروفٌ عديدةٌ جعلتني أحلمُ بزيارةِ بريطانيا ذاتَ يومٍ، منها وجود أساتذة لغة إنجليزية بريطانيين من آيرلندا وأسكتلندا في المرحلة الإعدادية بمدرسة أحمد بن سعيد الإعدادية بصحار الذين افتتحوا مكتبة خاصة لمادة اللغة الإنجليزية بالمدرسة بالتعاون مع دائرة اللغة الإنجليزية بالوزارة، التي كانت ناشطةً في هذا المجال في مدارس نموذجية في بعضِ المُدن العُمانية الكبيرةُ من خلال تزويدها بمعلمينَ بريطانيينَ "Native speakers"، وافتتاح مكتبة خاصة، فأتيحت لي الفرصة لإرواء ظمئي من الكتب العربية والإنجليزية.

ومن هذه الظروف أنني عملت في بقالة الوالد أمام مستشفى صحار المركزي الذي كان يرتاده الكثير من الأجانب والبريطانيين بصفة خاصة رجالًا ونساء والذين كنت أتحدث معهم باللغة الإنجليزية وأرافق بعضهم في جولاتهم بصحار.

كان مُعظم هؤلاء ممن يعملون بالأجهزة العسكرية والأمنية، وجهاز الشرطة، وبعض الشركات الكبرى في مسقط، وكانوا يجعلون من صحار وجهة سياحية في الإجازة الأسبوعية.

وأذكر أنَّ عددًا من الممرضين الذين كانوا يعملون بمستشفى صحار المركزي في السبعينيات من القرنِ الماضي كانوا من الولايات المتحدة الأمريكية، وكانوا يشجعونني جميعًا على زيارة بريطانيا وأمريكا.

سافر بعض زملائي في الدراسة من الميسورين والمقتدرين لدراسة اللغة الإنجليزية في بريطانيا في الإجازة الصيفية، وأصبح أحد زملائي قائدًا لطيران الشرطة، وخلفه زميل آخر في قيادة هذا الطيران أيضًا.

تناقشت يومًا مع أستاذي الأيرلندي حول "وعد بلفور"، وأنَّ بريطانيا هي سبب نكبة فلسطين فردَّ قائلًا: نحن الأيرلنديين بيننا وبين الإنجليز حروب، وليس لنا علاقة بما فعله بلفور.

لا أنسى هنا أستاذنا السوداني الطيب الزبير الطيب الذي حَبَّبَ لي اللغة الإنجليزية، وكان يحدثني في بعض الأحايين عن العلاقة بين السودان وبريطانيا، وعن سبب تمكن السودانيين من اللغة الإنجليزية الذي يعود في المقام الأول إلى الوجود البريطاني في السودان.

ومن القواميس التي كنت أعتمد عليها في تعلم مفردات اللغة الإنجليزية قاموس    "Longman English-English Dictionary" كل هذه الأمور جعلتني أتفوق في مادة اللغة الإنجليزية وأحصل على أعلى درجة في هذه المادة وأصبح مرجعًا في هذه المادة لزملائي وكان المرحوم علي بن شنين الكحالي المرجع الثاني في مادة اللغة العربية.

ومن المواقف الطريفة التي يجدر ذكرها أن الأستاذ الطيب الزبير كان يقرأ لنا القصة المُقررة علينا فطلب ماضي الفعل "escape" فقلت له: "Fled" فردَّ قائلًا: "إن هذه الكلمة غير موجودة في القصة، وهي من تأثير قراءة القصص على مستوى اللغة عند سعيد".

وقد اعتمدت على قاموس "Oxford English-English Dictionary" في دراسات متقدمة للغة الإنجليزية.

وقادني هذا الشوق لدراسة اللغة الإنجليزية بالمجلس الثقافي البريطاني بالقُرم في مسقط، في دورة تدريبية في إحدى الإجازات الصيفية من قِبلِ كلية التربية بصحار، ودراسة اللغة الإنجليزية لعدة أشهر بمعهد "Hawthorn" بـ"ملبورن" في أستراليا.

أعود إلى الأسباب الحالية أو الآنية التي شجعتني على زيارة بريطانيا في هذا الصيف وهي وجود أحد أبنائي لدراسة اللغة الإنجليزية في "بورنمورث"، ومعي مُرافقي الولد محمد الذي زار بريطانيا أكثر من 7 مرات، فهو المرافق والدليل.

يضاف إلى ذلك وجود أستاذنا الشيخ سالم بن ناصر المسكري الأمين العام لجامعة السلطان قابوس السابق، والرئيس الأسبق للجمعية التاريخية الذي زار "بورنموث" للدراسة عام 1968 مبعوثًا من حكومة أبوظبي، كما صادف وجود الأخ الأستاذ الزميل: عبد الجليل بن أحمد الرئيسي، الملحق الثقافي الأسبق بالسفارة العُمانية بلندن لمدة 10 سنوات.

والحديثُ عن بريطانيا العُظمى، أو المملكة المتحدة وعلاقتها بدول العالم، وبخاصة مُستعمراتها كالهند، والكثير من الدُّول العربية، والخليج وعُمان، وبعض دُول أفريقيا حديثٌ شيق ومُتشعب وواسع، وذو جوانب مُختلفة، كتبت فيه الكثير من الكتب والأطروحات والمقالات، وعُقِدت فيه الكثير من الندوات والمؤتمرات، وأعدت عنه العديد من البرامج الإذاعية والتليفزيونية.

وليعذرنا القارئ الكريم إن لم نُحط بكلِ الجوانب التاريخية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والسياحية والثقافية والأكاديمية والفنية المتصلة بموضوع مقالنا للسبب الذي ذكرناه، ولأنَّ مقالًا في صحيفة لا يتسع لكل صغيرة وكبيرة، فهناك ضوابط ومساحات محددة لكل نوع من أنواع المقالات.

يُضاف إلى ذلك أنَّ الزيارة هي الأولى، وكانت قصيرة لم تمكننا من زيارة بعض الأماكن الأثرية والسياحية، وبعض المقاطعات والمدن، ولكننا عملنا بالمثل القائل "ما لا يُدرك جُله لا يُترك كُله".

وسيكون مقالنا مختصرًا مُجملًا يتوقف عند محطات معينة ومُحددة، وسيشير إشارات عابرة إلى بعض الشخصيات والأحداث، آملين من خلال هذه الطريقة أن يتوسع القارئ في الأمور التي أشرنا إليها إن أراد التوسع والاستفادة من خلال المراجع والكُتب التي سوف نذكرها.

وقبل الدخول في الحديث عن بريطانيا وزيارتي الأولى لها، سوف أشير إلى ما قاله الفنان: سمير صبري في مُذكراته عن السلطان قابوس، يقول: "استدعاني أول وزير إعلام بأمر من الرئيس السادات، وقال لي: إنَّ جلالة السلطان قابوس سوف يزور مصر، ونُريد منك إجراء مُقابلة معه، وتعلم أنَّ جلالة السلطان خريج أكاديمية "ساند هيرست العسكرية"، فبقيت أفكر طوال أيام حول ما كان يقصده وزير الإعلام بكلامه، هل يُريد مني التحدث مع جلالة السلطان باللغة الإنجليزية، وهو رجل عربي مسلم يزور دولة عربية مسلمة، فقد يغضب هذا جلالته، وبقيت في حيرة وقلق وتوجس طوال الأيام التي سبقت المُقابلة، إلى أن قررت أن أفاتحه وأحييه باللغة الإنجليزية، فرد قائلًا "Perfect English"، وهنا تهللت أساريري، وهدأ روعي وواصلت الحوار.

ويضيف قائلًا: "سألت جلالته عن قِراءاته فقال: أقرأ لوليم شكسبير، وأحضر بعض مسرحياته في لندن، وأقرأ للروائية والقاصة البريطانية: أجاثا كريستي، وبخاصة روايتها "موت فوق النيل" التي نشرت لأول مرة في المملكة المتحدة عام 1937، وأتمنى زيارة الصعيد، والواضح أنَّ مُعظم أحداث الرواية حدثت في الصعيد". ونشير هنا إلى أنَّ فيلم: "جريمة في قطار الشرق السريع "Murder on the Orient Train" الذي كتبه مايكل جريف، استند إلى رواية لأجاثا كريستي نشرت عام 1936، وأنشئ هذا القطار عام 1883، ويذهب إلى أوروبا مُرورًا بلندن وباريس والنمسا.

حاولتُ زيارةُ أكاديميةُ "ساند هيرست" فأخبرني الولد المقيم في بريطانيا: بأنها تبعد عن لندن أكثر من ساعتين، فأجّلت زيارتها نظرًا لضيق الوقت، وفي معرض حديثنا عن أكاديمية "ساند هيرست" قرأت مقالًا لأحد الكُتاب السُّودانيين يقول فيه: إنَّ المشير عبد الرحمن سوار الذهب الرئيس السوداني الأسبق، كان من الأوائل في الكلية الحربية السودانية، فأرسل إلى كلية "ساند هيرست"، وحصل على المركز الأول على دُفعته، واستحق الصولجان، يقول الكاتب: "إنَّ سوار الذهب هو سادس شخصية تحصَّل على الصولجان بعد تشرشل ومونتغمري ورُومل وآيزنهاور".

يُشار إلى أنَّ هذه الكلية تخرَّج فيها العديد من المُلوك والرؤساء، وكبار قادة الجيوش في العالم، وبعض الشخصيات، وبعض الرؤساء حصلوا على الصولجان بصفة فخرية؛ حيث لم يتخرجوا في هذه الكلية، ولم يدرسوا فيها.

وأذكر أنه زارني أحد الصحفيين السودانيين في إحدى المجلات العُمانية في السنوات الأولى من عملي بوزارة التربية والتعليم في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وأعتقد أنه "كنان محمد الحسين" نائب مدير تحرير مجلة النهضة، وكان يُعِد تحقيقًا عن شخصية العام فقلت له: "عبد الرحمن سوار الذهب"، فقال: هل أنت متأكد، أو هل أنت مُصِرٌّ على هذه الإجابة، فقلت له: نعم.

واليومَ يُشيد الكثيرون بسوار الذهب، لأنه سلَّم الحُكم الى سُلطة مَدنية بعد عام واحد من استلامه لها.

تعليق عبر الفيس بوك