غزة في قلوب العُمانيين

 

د. سلطان بن خميس الخروصي **

sultankamis@gmail.com

 

 

خلال أكثر من سبعة عقود ونصف العقد شكلت القضية الفلسطينية مرتكزًا محوريًا نحو السيادة الاستراتيجية والحلم الخالد في سبيل الوحدة العربية، فمرّت هذه القضية بموجات ارتدادية متتالية وبقيت بين فرٍّ وكرٍّ لتشي بواقع هُلامي للمشروع العربي الوجودي، والذي تجسد آخره في الصمت المخزي تجاه الإبادة الإنسانية للأطفال والنساء والحياة في قطعة أرض لا تتجاوز (360 كم2) أُمطرت بعشرات الأطنان من أدوات القتل والتدمير والإبادة.

كل ذلك وسط تجاهل عربي مُخزٍ وتصفيق غربي منافق عن الديمقراطية والحُرية، وأمام كل هذا التعرِّي الأخلاقي والقومي والإنساني والديني ينبري الموقف العُماني المسؤول سلطاناً وحكومة وشعباً بعمق صناعة القرار السياسي والانتماء القومي الأصيل مع كثير من المُتغيرات والمساومات وتقلّب الأمزجة والأنظمة وازدواجية الولاءات والانتماءات الإقليمية والدولية، حيث التَّمسُك بالموقف الرزين المتين في تقييمه للحق العربي متضلّعاً بقاعدة الثوابت والأولويات، لتظل مواقفه خالدة يشدو برُبابتها التأريخ؛ فيَسمع أثيرها جموع الأُمم والشعوب، ليرشفوا من مَعِينِ جنائِنِها أُرجوزة المدنِّيَة والتحضُّر وصناعة السياسة واحترام الإنسانية وحق تقرير المصير.

نأت عُمان الخالدة بنفسها عن صخب ازدواجية المعايير وتمييع المفردات والمفاهيم، فسلطان البلاد المفدى وفي خطابه السامي أثناء افتتاح مجلس عُمان نجده يُشدَّد على موقف البلاد الثابت والحضاري بحق الشعب الفلسطيني بأرضه وسمائه، ويُجرِّم مجازر الصهيونية تجاه الحياة الإنسانية الكريمة، ليتناغم مع خطاب جلالته رسائل سماحة الشيخ أحمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عُمان، والتي يبارك فيها أفعال المقاومة وحركات التحرر الوطنية والدعوة لمقاطعة الشركات الداعمة للصهاينة ومن عاونهم، ويوجه خطاباته ونداءاته لعلماء الأمة بأن يتحملوا ذنب صمتهم عند الله تعالى عن إزهاق الأرواح بدون وجه حق في غزة، ليكتمل بهاء الموقف العُماني المشرِّف شعبًا وحكومة من خلال دعوة عُمانية خالصة بمحاكمة دولية لمجرمي الحرب في غزة والتي جسَّدتها الصحافة العُمانية الرسمية والخاصة بكل مصداقية وجُرأة وشفافية عبر صفحاتها الأولى، ويكون للشعب ومؤسسات التنشئة الاجتماعية كلمتها الثابتة الراسخة جنبا إلى جنب مع سلطانها ومؤسسات الدولة والصحافة في المظاهرات الجماهيرية التي يقودها ثُلَّة من الشباب المؤمن بمبادئه والقابض على ثوابته كالقابض على الجمر، وغرس تلك السجايا في نفوس النشء عبر المؤسسات التربوية و تكريس ثقافة وقيمة الدفاع عن الوطن والتضحية من أجله، وتعزيز قيم الولاء والانتماء التي هي مكون رئيسي نصَّ عليه النظام الأساسي للدولة.

إنَّ الهجمة المستعرة في الفترة الأخيرة على الموقف العُماني الواضح والصريح والجريء في مناصرة القضية الفلسطينية، والدعوة لإنصاف الإنسان في قطاع غزة بحقه في الحياة الكريمة ووقف حمام الدم وآلة الموت الصهيونية المُستعرة لها مآرب واهية سمجة يقتات على فتاتها زُمرة مراهقة من مرتزقة المواقف والمصالح، فهم يعرفون تاريخ هذا البلد العظيم ومواقفه السيادية الرصينة في الكثير من القضايا القومية والعالمية، فما جرى تروجيه بأنه تعزيز لقيم العنف وخلق جيل متضلِّع بالكراهية تجاه القوميات والأديان الأخرى في إشارة إلى اليهود ما هو إلا تكريس لسياسة التطبيع والانبطاح في القيم والثوابت بعدما أتعبتهم الفلسفة السياسية والتربوية في القدرة على خلق جيل يحمل في صدره حب فلسطين وعروبتها وطيفها الديني القويم، لقد آلمتهم صلاة الجمعة التي ما فتأت تُذِّكر العالم بحق الحياة للفلسطينيين الذين أغرقوا أرضهم بدمائهم الزكية وصلاة الغائب على أرواحهم الطاهرة في ظل صمت عربي مُخيف والخشية حتى من رفع أكف الضراعة لله تعالى بأن ينصرهم ويرحم شهداءهم، عُمان ليست  بحاجة لأنَّ تُعلِّمها الصُّحف الصفراء، ولا أن يقوِّم ويقيّم مواقفها صُغراء القلم وتُجَّار المواقف، ولا أن يوجَّه سفينتها الأقزام والقراصنة فهم رُبَّان البحار على مدار الزمان،  بل هي تُلجم تلك الأفواه بالإرث التاريخي المُشرِّف تجاه القضايا العربية والإقليمية منطلقة في ذلك من إرثها الحضاري ومسؤوليتها الأخلاقية والإنسانية.

** باحث ومتخصص في الشؤون التربوية والاجتماعية والثقافية