السياسة . . وكتابة التاريخ !

 

يوسف عوض العازمي

" على أعداء أمريكا أن يخشوا أمريكا، لكن على أصدقائها أن يخشوها أكثر "

(هنري كيسنجر)

كنت أشاهد شاشة الجزيرة بينما قادة حركة طالبان الأفغانية، قد دخلوا قصر الرئاسة، وأثناء البث لفت نظري لقطة أحد القادة ينزل العلم الأفغاني من على سارية أرضية ثم يرتبه بهدوء، ويبعده عن السارية، في هذه اللقطة بالذات إشارة لانتهاء العمل بهذا العلم، والتحضر لإحضار علم جديد، أثناء مشاهدتي لهذا المنظر تساءلت: ما الذي سيكتبه التاريخ حول هذا الحدث، وهذه اللقطات كيف سيتناولها المؤرخون حاليًا" وغدا" وفي المستقبل؟

في اليوم التالي كانت الكارثة الإنسانية في مطار كابول الدولي، عندما تعلق الآلاف من الأفغان بعجلات بطائرات الشحن المُغادرة، مقاطع وصور انتشرت في العالم عنوانها الرئيسي: إنهيار قيمة الإنسان !

 

مما لايعلمه الكثيرون أن هناك مفاوضات بين حركة طالبان والولايات المتحدة في إحدى الدول الخليجية، وهذه المباحثات والمفاوضات استمرت لسنوات بشكل غير مُعلن، كانت الولايات المتحدة تفاوض طالبان بينما في الوقت ذاته كانت الحكومة الأفغانية الموالية لها تحكم وبشكل سلس وطبيعي، بالطبع يعلم المفاوض الأمريكي أن الحكومة الحالية وقتذاك كانت في الحقيقة بغطاء سياسي وأمني أمريكي ولولا ذلك لما جلست على كرسي السلطة دقيقة واحدة، وطالبان كانت تملك القوة الفعلية في ذلك البلد الذي أنهكته الحروب، السؤال الذي يطرح نفسه هل كانت الحكومة الموالية تعلم بما يجري على ضفاف الخليج، أم أنها تعلم لكن على طريقة لاحول ولاقوة؟

مخطئ من يعتقد أن الولايات المتحدة ستنسحب هكذا مجانا" بلا مكاسب، وهذه للنسيان، لكن ماهي المكاسب التي على إثرها تم تسليم الحكم بالجمل بما حمل وبعد سحب الغطاء عن الموالين؟ وهذا ما سيجيب عليه التاريخ.

لاشك أنَّ الوضع وماحصل حياله كان بسبب تقاطعات المصالح، كما أسلفت في مقالات سابقة فالسياسة هي واحد زائد واحد يساوي اثنين، يجب أن تكون الحسابات صحيحة وفي محلها الملائم، ومحلها الملائم قد يتجاوز مبادئ أخلاقية أو قيم دارجة، لكن الغلبة ستبقى للمصلحة والمصلحة فقط، وعلى ذكر الأمريكان فهم براغماتيون من الدرجة الأولى، يضعون الأخلاق متى أرادوا ويتم ركنها على الرف وبهدوء متى أرادوا، المصلحة هي القرار الأخلاقي الأول .

هنا لا أوبخ السياسة الأمريكية ولا أشيد بها لكني أصف مشهدا" أخذ الألباب والعقول، وسيطر على فكر الساسة في العالم، لا تطمئن إلا للمصلحة التي تربطك مع السياسيين، فليس الوضع حلقة مواعظ أو أنك تدخل للاستمتاع بمظاهر أخلاقية راقية، فالسياسي تجده تحركه بوصلة المصلحة وواحد زائد واحد، كما أسلفت في مقالات سابقة وكما قلت لك قبل سطرين !

لكن هل كل السياسات متوحشة؟

يُمكن ولا يُمكن، هي تعتمد على الوضع المهيمن على الساحة، السياسي الحاذق يعرف تمامًا" كيف يختار الحلفاء، وكبف يدير اللعبة السياسية، وأين وكيف ومتى يتصرف بأوراق الضغط، قصة أنك طيب وكمان على نياتك هذه قد تكون أروع مسرحية كوميدية في تاريخ السياسة !

توفي قبل أيام هنري كيسنجر ثعلب السياسة الأمريكية، وبغض النظر عمَّا قيل فيه وعنه، لكنه بالفعل يمثل وجها" حقيقيا" للسياسة الأمريكية، أتذكر عندما قرأت قصته مع الملك فيصل بالسعودية، وفي خيمة بالصحراء في أقصى الرياض، كانت قصة مستوحاة من الأثر السياسي، دهاء الرجلين سيطر على ساحة المباحثات، كان الحوار غير المباشر هو المباحثات الحقيقية بينهما، وكانت جسارة الفيصل قد أذهلت الثعلب الأمريكي الذي فهم بأنَّ الملك لن يتزعزع عن موقفه قيد أنملة، واستمرار وقف النفط العربي عن الدول الداعمة للكيان الصهيوني (كانت ثلاث دول خليجية استخدمت سلاح وقف النفط عن الدول الداعمة للصهاينة وهي السعودية والإمارات والكويت) رغم العلاقة التاريخية الوثيقة بين البلدين، وبعدها حصل ماحصل من أحداث بينت بوضوح مدى تأثر المصالح بلعبة هات وخذ السياسية !

لذلك وبما أن الحديث عما جرى في أفغانستان أيام جائحة كورونا، وبعد تذكر سياسات وفكر كيسنجر بعد وفاته، فإن أفضل عمل يقوم به  "كاتب "في التاريخ، أنه عندما يعجز عن نقل  "الحقيقة" ألا يكتب، الصمت خير من التصفيق لباطل، أو على الأقل ألا يتحدث عن شكوك بأنها أمر واقع، فالتاريخ خطر جدا" لدرجة أن من يكتبه قد يكونون فائقي الشجاعة، فكلمة الحق أحيانًا مؤلمة، وقد لاتمر مرور الكرام !

 

يوسف عوض العازمي