هدنة غزة.. لماذا الآن وليس التصعيد؟!

 

جمال بن ماجد الكندي  

بعد 49 يومًا من معركة طوفان الأقصى، نستطيع تقسيم هذا الحدث الكبير إلى قسمين؛ الأول: المعركة التي بدأت بتوقيت فصائل المُقاومة الفلسطينية بقيادة كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" بتاريخ 7 أكتوبر، عندما شنت المُقاومة الفلسطينية هجومًا على مستوطنات غلاف غزة وما فيها من مواقع عسكرية، وحققت المُفاجأة بالسيطرة على المواقع العسكرية وقتل عدد كبير من العسكريين الصهاينة وأسْرِهِم، واحتجاز عدد من المدنيين، والانسحاب بسلام إلى داخل غزة ومعهم غنائم الحرب، والتي مثلت فيما بعد ورقة المقاومة الفلسطينية من أجل "تبييض" سجون الاحتلال الصهيوني من الأسرى الفلسطينيين بكافة أطيافهم.

القسم الثاني من هذه المعركة بدأ بالعدوان الهمجي على قطاع غزة المحاصر تحت ذريعة أن "إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها"، وهذه العبارة راجت في بداية العدوان، لكنها سرعان ما تبخّرت وانقلب الرأي العام العالمي ضدها بسبب جرائم العدو الصهيوني في غزة، وانكشفت وحشيته بسقوط العدد الكبير من الشهداء والجرحى من المدنيين الذين راحوا ضحية هذا العدوان.

وفي هذا القسم الثاني من المعركة، بدأت الهدنة التي أُجبر العدو الصهيوني على قبولها. والسؤال هنا لماذا قبلها هذا الكيان، بينما قال رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو إن الحملة على غزة لن تتوقف حتى يتم تحقيق هدفين رئيسيين؛ وهما: تحرير الأسرى الصهاينة من مدنيين وعسكريين، والقضاء على حركة حماس في غزة. فلماذا الهدنة الآن وليس التصعيد؟!

للإجابة على هذا السؤال لدينا عوامل خارجية وداخلية، سارعت بقبول العدو الصهيوني لهذه الهدنة.

أولًا: العامل الخارجي: تكمن أهمية هذا العامل في كونه الضاغط على الكيان الصهيوني، وتمثل في ردة الفعل الدولية على جرائمه التي ارتكبها في غزة، فكانت ردة الفعل مفاجِئة لهذا الكيان وداعميه خاصة أمريكا، وتمثلت في المظاهرات الغربية المُنددة بالعدوان على غزة، وكان عنوانها البارز في الولايات المتحدة الأمريكية بمدنها المختلفة، وهذا ما أزعج الإدارة الأمريكية بأن يكون مركز المظاهرات العالمية في أمريكا، لذا شكَّل هذا الأمر ضغطًا كبيرًا على الإدارة الأمريكية، خاصةً وأن شعبية الرئيس الأمريكي جو بايدن بين فئة الشباب تقلَّصت، وهذا الأمر سوف يكون له تأثير عكسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في 2024.

لذلك تحول الضوء الأخضر الذي أُعطي للكيان الصهيوني لتحقيق أهدافه إلى مدة زمنية مُحددة وبعدها يُفرض على إسرائيل الدخول في هدنة، ومن العوامل الخارجية كذلك تنديد المنظمات الحقوقية والإنسانية بما تفعله إسرائيل في غزة، وضعف روايتها تجاه ما تقوم به من جرائم، وخاصةً السردية الهزلية لمسرحية مجمع الشفاء الطبي بأن تحته مقر القيادة الحمساوية وجميع أسرى معركة طوفان الأقصى في الممرات السرية لهذا المجمع! كل هذا الفشل كان أمام أعين المجتمع الدولي، لذلك قامت أمريكا بالضغط على ربيبتها لقبول الهدنة، والتي معناها حسب رأي بعض القادة العسكريين الصهاينة المتقاعدين هزيمة الجيش الإسرائيلي.

ثانيًا: العامل الداخلي: وينقسم إلى ثلاثة أقسام القسم الأول خسائر للجيش الإسرائيلي، والقسم الثاني المظاهرات المطالبة بتسريع رجوع الرهائن والأسرى الإسرائيليين لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، والقسم الثالث الخسائر الاقتصادية اليومية من تبعات الحرب على غزة؛ فبالنسبة لخسائر الجيش الإسرائيلي فالمعلن عنه لا يطابق الواقع، فعدد الآليات الصهيونية التي تمَّ تدميرها تدميرًا كليًا أو جزئيًا فاق 350 آلية، من دبابة وناقلة جند وجرّافة، وطبعًا هذه الآليات لا تتحرك بنفسها، ولكن يوجد بها جنود وهم بين قتلى وجرحى، ويكفي أن هناك تقارير من داخل الكيان الصهيوني بوجود أكثر من 1600 حالة إعاقة بسبب حرب غزة، وهذه الأعداد هي عامل ضاغط على الحكومة الإسرائيلية لقبول الهدنة.

القسم الثاني من العامل الداخلي هي المظاهرات ضد نتنياهو من أجل الإسراع في إرجاع الأسرى اليهود من المدنيين بأي وسيلة، وكانت وسيلة الهدنة هي الأسلم والأسهل والقصف الهمجي العشوائي من أجل استرجاعهم بالقوة كلف إسرائيل مقتل 60 منهم، وستكون هنالك تبعات سياسية على نتنياهو بسبب هذه الخسائر البشرية.

القسم الثالث من العامل الداخلي هي الخسائر الاقتصادية من وراء هذه الحرب؛ فإسرائيل اضطرت للاستدانة من أجل الحرب وبفوائد كبيرة، فالعدد الأكبر من جيشها هو من جنود الاحتياط، وهم من الطبقة العاملة في إسرائيل، وعندما يذهبون إلى الحرب تتعطل العجلة الاقتصادية فيها، وهو ما حصل في إسرائيل، فعامل الوقت كلما طال يقتل اقتصادها ويضعها في دائرة العجز المالي، وأما عند الجانب الفلسطيني فهو عنصر قوة، وورقة ضغط على هذا الكيان الغاصب، وتاريخيًا إسرائيل لا تستطيع تحمل عاملين في أي حرب تخوضها، عامل أعداد القتلى والجرحى، والعامل الآخر هو إطالة أمد الحرب وهما قد تحققا في حرب غزة، لذلك ذهبت إسرائيل مرغمة لقبول الهدنة.

هذه العوامل الخارجية والداخلية سرَّعت قبول إسرائيل للهدنة، ولكنَّ هناك عامل أهم منهما وأساسي، وهو الصمود الأسطوري لأهل غزة، ووقوفهم صفًا واحدًا مع مقاومتهم رغم ما أصابهم من قتل وتشريد وتدمير، والقتال البطولي لقوى المقاومة الفلسطينية في غزة.

الهدنة في غزة سوف تتبعها هدن مقبلة، والمفاوض القطري والمصري يعملان على وقف دائم لإطلاق النَّار وفق شروط المقاومة والتي بعد الانتهاء من تبادل الأسرى من النساء والأطفال من الجانبين سيفتح باب الأسرى العسكريين، وشروط قوى المقاومة الفلسطينية لإتمام هذه الصفقة التي سوف تحقق على الأرض معنى الانتصار الكبير لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة العزة في هذه المعركة، والعدو الصهيوني بات مهزومًا بعد كل التدمير الذي أحدثه في غزة، ولم يحقق أي مكسب عسكري، خاصة بعد أن أثبتت حماس سيطرتها على مجريات الحرب في غزة.

لذلك، بعد زعم الجيش الإسرائيلي سيطرته على شمال غزة خرجت الدفعة الثالثة من الرهائن المدنيين من شمال غزة وهذه انتكاسة عسكرية إسرائيلية تظهر ضعف استخباراتها وعدم تحقيق نتائج على الأرض فهذه غزة العزة مقبرة الغزاة.