من المسافة صفر في جحر الديك

 

علي بن سالم كفيتان

 

ظهر الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخرا وقد استعاد بعض الشعور الإنساني وهو يقول: "أشعر بحزن عميق لموت آلاف الأطفال في فلسطين"، لكنه في ذات الوقت لن يأمر شرطيه في الشرق الأوسط بوقف القتل والتنكيل بالأبرياء الذين ليس لهم ذنب سوى أن القدر جعلهم بشرًا يسكنون غزة، وعلى نقيض صحوة الضمير الإنساني الغربي نتفاجأ بالمُطبِّعين الجُدد من المتزلفين إلى الكيان الغاصب وهم يُدينون بأبشع الكلمات حركة حماس وما فعلته صبيحة السابع من أكتوبر ويصرحون بذلك علنًا على رؤوس الأشهاد، ونقول هنا ليتهم سكتوا وعملوا بحديث: "إذا ابتليتم فاستتروا".

الكيان الصهيوني هو شرطي الغرب في منطقة الشرق الأوسط، ولا تنطبق عليه اشتراطات الدولة بمفهومها السياسي؛ فالدول تعترف بالمواثيق والعهود الدولية ويكون لها نهج سياسي وعسكري في التعامل مع الأزمات التي تتعرض لها، لكن المُتتبع للأفعال المشينة والسلوك الإجرامي ضد كل شيء يمشي على الأرض في غزة، واتباع منهج الإبادة الجماعية لشعب محاصر، يُدلل بما لا يدع مجالًا للشك، على أن هذا ليس نهج دولة؛ بل نهج عصابات لا دين ولا مبدأ لها، بدليل أنها خارج نطاق القانون الدولي والإنساني. فالكيان الصهيوني هو الاستثناء الوحيد في العالم من القانون الدولي، وهذا دليل واضح على أن هذا الجسم المزروع في قلب فلسطين لا يحمل مؤهلات دولة، رغم كل الجهد الذي تبذله الحاضنة الغربية لتثبيته، لكن الطبع غلاب، ولنتخيل لو أن هذا الكيان تصرَّف بالطريقة التالية بعد هجوم حماس، فقام بمواجهة المجاهدين وأزاحهم لحدود غزة وأغلق الثغرات التي دخلوا منها واستجاب لطلب وقف إطلاق النار وانخرط في عملية لتبادل الأسرى بين الطرفين والاعتراف بأن هناك شعبًا محتلًا ومحاصرًا يبحث عن حريته منذ 75 عامًا ونيف، والدخول في مفاوضات جدية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. لو انتهج الصهاينة هذا الطريق لكان هناك شك ولو بسيط أنهم يستحقون لقب دولة؛ فالدول الاستعمارية على مدى التاريخ البشري مهما بلغ صلفها تعترف بحق وندية الحركات التحررية من باب حرية الشعوب في تقرير المصير، إلّا أن هذا الكيان أثبت أنه مجرد شرطي أو قاعدة متقدمة للغرب، ويتخذ من اليهود واليهودية ذريعة لذلك، وهذا ما يراه اليهود المتدينون ويعونه ويقفون ضده بشكل علني.

السؤال الذي يفرض نفسه بعد كل هذه الإبادة: ما النتيجة التي حققها بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه والداعمون للعدوان من الغرب والعرب؟ حتى اللحظة لم يستَعِدْ هولاكو العصر (نتنياهو) أسيرًا واحدًا، ولم يقض على قائد بارز في حركة حماس، ودخول دباباته إلى غزة دون مقاومة هي جزء من استراتيجية بعيدة المدى للمقاومة. فقد يرى البعض السماح لهم بالدخول للمستشفيات خطأ من المقاومة، لكن الصحيح هو أن تجنب مواجهة دامية في المستشفيات يروح ضحيتها المزيد من الأبرياء يمثل خطوة متقدمة للمقاومة ونظرة بعيدة المدى للصراع؛ فالصهاينة ينزفون في حواري وأزقة غزة ويفقدون يوميًا العشرات من القتلى والدبابات والقطع العسكرية، وبأقل الخسائر من الطرف الآخر (المقاومة)؛ فالعملية باتت أشبه بصيد الخنازير البرية في المستنقعات الإفريقية، وفي هذه الأثناء يستمر الهلع الصهيوني في كامل أرض فلسطين ويتدهور اقتصادهم ويفر المزيد منهم من حيث أتوا.

هنا المعادلة العسكرية تصبح لصالح المقاومة بكل تجلياتها وتعد استمرارًا لنكسة بنيامين التي مُني بها في 7 أكتوبر ومستمرة إلى اليوم.

بات الصهاينة يخوضون حربًا لا يعلمون مصيرها في جُحر الديك وسط قطاع غزة، بينما المقاومة تلتهمهم من المسافة صفر؛ فالصفر لم يعد لدى المقاومة يرمز للعدم؛ بل أصبح له قيمة تفوق جميع الأرقام ويُخيف أعتى الجيوش؛ لأن الصفر بات قاتلًا وفتّاكًا مع انعدام الخوف وارتقاء الإيمان لدى المجاهدين. فلك أن تتخيل رجلا بلباس مدني في حارة مُدمرة تربض فيها دبابة الميركافا الباهظة الثمن، يقوم هذا الرجل البسيط المار بعفوية وبولاعة لا تتعدى قيمتها دولارا واحدا بإحراق هذا الجسم الضخم بمن فيه، ويستمر في طريقه ويعود أدراجه بهدوء إلى منزله المهدم على أشلاء أسرته.

إنه الانتقام الصامت الذي يدحر المعتدي، وهو نفس النهج الذي استُخدم في عدن إبان الاستعمار البريطاني وفي بقية الدول الحرة التي نالت استقلالها وكرامتها بدماء أبنائها وليس بالجلاء أو التقسيم.

سيطلب الاحتلال قريبًا الهدنة وسيعود التفاوض على الأسرى والمعتقلين، وسيندم الكثيرون على مواقفهم المخزية والمشينة، وأولهم المطبعون مع الكيان الصهيوني الغاصب.

حفظ الله فلسطين وأهلها.