ناصر أبوعون
التاريخ قصر شامخ عظيم، وفيه غرف شتى بعضها صدورها رحبة تفتح نوافذها لشمس الحقيقة، وتغفو على وسادة ضميرها المتسامح مع ذاته ومع العالم تحت ضوء قمر الإنسانية التي جبل الله الناس عليها، وبعضها سراديب سحرية سوداء وزرائب لعبدة الشيطان، وفي ساحته الأمامية على امتداد الشوف يتجمّع الشرفاء والأشقياء وتجار الحروب والأمراء والفلاسفة والحكماء والسوقة والدهماء والدجماء؛ لكن لا صوت فيها يعلو فوق صوت الحق، فلا يغرنّكم الراكبين على الخيل المطهمة، والمزينة بالاستبرق والديباج، ويريدون السطو على التاريخ باستئجار الكتبة وخبراء تزييف الوثائق لصناعة ماضٍ تليد لا وجود لها إلى في مخيلتهم إنهم {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9) فلا تَرهبوهم؛ فإنّ سيوفكم المهنّدة تأكل أغمادها ويسيل لعابها عندما تشم رائحة الخيانة.
أمّا هنا في عُمان فالصورة مختلفة والتاريخ منذ آلاف السنين ينحني فخارا لأحفاد بررة تناسلوا من ظهور مائتين وثلاثين قبيلة عربية خالصة لا تشوب نسبها شائبة، وتمتد أعراقهم في شرايين (القحطانيين) و(العدنانيين)، عبروا منذ مئات السنين المحيطات والبحار مبشرين بالسلام وبالإسلام وداعين إلى الحق والقيم الإنسانية النبيلة ومضيئين ظلمات الجهالة بنور الحقيقة، ولم يرفعوا يوما سيفا إلا زائدين عن حياض وطنهم في وجه كل مستعمر غاصب، ولم يدنسوا شرفا، ولم يسلبوا متاعا، ولم يقطتعوا أرضا، ولم يتآمروا مع أجنبي ضد أبناء جلدتهم وكان شعارهم: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} (طه: 131).
أبواليقظان.. مختصر السيرة
من هنا في عُمان أرسل الشيخ عيسى بن صالح الطائيّ قاضي قضاة مسقط قصيدته (سيل واديك) إلى شيخ الصحفيين الجزائريين (أبي اليقظان إبراهيم بن عيسى) رئيس تحرير جريدة (وادي ميزاب) الأسبوعية لسان حال الفكر الإسلاميّ والجزائريّ، وأحد أذرع المقاومة في مسيرة النضال والتحرر التي اشتعلت جذوتها في الشمال الأفريقيّ، وعلى مدار ثلاثة عشر عامًا ذاق خلالها مؤسسها أبو اليقظان ألوان الضيم والتضييق والمطاردة والتفتيش والمصادرة على أيدي (الاستعمار الثلاثيّ) البريطانيّ الفرنسي والإيطاليّ الذي جثم على صدر العرب الخُلّص، والأمازيغ الشرفاء، والبربر الأوفياء، في دول الشمال المغاربيّ من مصر إلى نواكشوط؛ وخلالها بذل أبو اليقظان القسط الأكبر من صحته وماله وقوت عياله وراحته، في سبيل إعلاء كلمة الحرية الداعية إلى تحرير الشعوب؛ فكلما أغلقوا له صحيفة أو صادروا له نسخًا أصدر غيرها ولا يبالي؛ وواصل الليلي بالنهار في تحرير مادة (صُحفه الثمانية) في مكتبها بالجزائر ثم يرسلها للمطابع في تونس، ويعيد نقلها بالقطار لتوزيعها على قرائها ومشتركيها في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وجنوب الصحراء، وكان يعاونه في تحريرها رفيقان من دربه جهاده هما: (الشيخ الثمينيّ وابن الشيخ قاسم بن الحاج عيسى) بلغة حماسية وجرأة لغوية وناطق ضميرها بالتراث الأخلاقيّ العربيّ ومباديء الإسلام الوسطيّ المعتدل ورافعة راية التحرر بالكلمة وداعية إلى المقاومة المسلحة لكنس المستعمرين وإعلان الاستقلال. إلا أن الرجل الأبيض وأذنابه تآمروا على إغلاق أبواب كل جريدة من الثمانية واحدةً تلو الأخرى، وإلغاء تصاريح صدورها، ومصادرة أعدادها.ومازال التاريخ يحتفظ في ذاكرته بتلك الصحف الثمانية التي أصدرها أبو اليقظان الجزائري؛ وهي:(وادي ميزاب)، و(ميزاب)، و(المغرب)، و(النور)، و(البستان)، و(النبراس)، و(الأمة)، و(الفرقان). وقد أوردها عمار الطالبي في كتابه: (آثار ابن باديس1997)، وذكرها (معجم أعلام الإباضية – قسم المغرب 2/27-29).
سيلُ واديكَ يا أبا اليقظان
كانت عُمان في هذه الأيام ترزح تحت وطأة الاستعمار البريطانيّ، وكان الوطنيون يسعون إلى التواصل مع قادة الحراك التحرّري خارجها والاتصال بقادة المقاومة الفكريّة والتنويرية التي تماثلهم في عقيدتهم الدينية وحميّتهم الثورية بغير حيف ولا مُغالاة، وكان القاضي عيسى الطائي في طليعة هؤلاء الذين تتلمذوا بالمراسلة على أيدي سليمان باشا البارونيّ في ليبيا وأبواليقظان في الجزائر، واستناروا بأفكارهم وسار على نهجهم، فكان يكتب إليهم ويشاركهم أفكارهم وتطلعاتهم الاستقلالية، ومما كتبه لأبي اليقظان التي بين أيدينا وكنت تحت عنوان: (سيلُ واديك)؛ وفيه صورة مركبة تجمع بين (الكناية) و(الاستعارة) و(المجاز العقليّ) و(التشبيه) مُصورًا جريدة (وادي ميزاب) بالسيل الجارف الذي يكنس كل ما يعترضه من عقبات.
ولأن طبيعة التكوين البيئيّ والدينيّ لأبي اليقظان كانت تكسر دوما في نفسه لوثة الكبرياء التي تصيب الصِّغار، وتقتلع بذرة الغرور التي ينثرها الشيطان في النفوس الضعيفة، ومخافةَ أن يقع في حبائله ويشعل جذوة الغرور في نفسه، امتثالا لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ (لقمان: 33). فلما إن وصلت قصيدة (الطائي) إلى بريد أبي اليقظان غيّر عنوانها ونشرها في صحيفة (وادي ميزاب) الأسبوعية في العدد 41- الجمعة 22 من المحرم 1346 هـ الموافق: 22 من يوليو 1927م، ولكن تحت عنوان صنعه بنفسه: (إحساس عُمان نحو وادي ميزاب).
الخصائص الأسلوبية في القصيدة
في (سيل واديك) تتبدّى بكثافة الخصائص الأسلوبية على ثلاثة محاور حيث نعثر على (الإيقاع) بصورته الخارجية:(الوزن والقافية)، وبصورته الداخلية المتحققة بـ (التكرار) و(التجنيس)، و(التصريع). أما خصائص الصورة الشعرية فقد كانت ارتكازاتها إحصائيًا تستند إلى (الاستعارة بِجُنْحَيْهَا التشخيصيَ والتجسيميّ) في المرتبة الأولى، ثم جاءت (الصورة الكنائية) في المرتبة الثانية، وأخيرًا (التشبيه). وقد تعاونت (البنية التصويرية) مع (البنية التركيبية) القائمة على (الحذف) و(التقديم والتأخير) و(التعريف والتنكير) و(الأسلوب الإنشائيّ) في إظهار بدائع القصيدة والإبانة عن جوهرها.
أولًا: البنية الإيقاعية
لاحظنا أن القاضي عيسى الطائي ابتنى قصيدته من تفعيلات (بحر الرمل)، وهي ست تفعيلات (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن)، وهي تتابع نغماتها هادرة ثم تتوقف ليبدأ التدفق والتسارع من جديد، وهذا البحر يتوائم مع غرضي المدح والفخر لما يحمله من طاقة تفخيمية لا متناهية؛ لكن بالتدقيق وجدنا الشاعر ارتكز على إحدى صوره الشاذّة وهي (المخبون التام) وبالنظر إلى البيت الأول من القصيدة الذي يقول في شطره الأول: [(صَاحِ ذَاكَ الرَّبْعَ عُجْ تَقْضِ حُقُوقَهْ)] وتفعيلاته: (فاعِلاتُنْ/ فاعِلاتُنْ/ فعِلاتُنْ)؛ حيث جاءت (العروضُ) محذوفةٌ (فاعِلُنْ) وهي العروضُ الأولى من هذا البحرِ ولكنها ماثلت بالتصريعِ الضربَ الأولَ المخبونَ ثانيه (فعِلاتُنْ) أوهي (العروضُ الشاذّةُ التامَّةُ) ودخلها (خبنُ) الثاني وقد لا تُشبَعُ حركةُ حرفِها الأخيرِ بسببِ (خبنِ) سابعها. أمَّا في الشطر الثاني [(لَسْتُ أَنْسَاهُ وَلَا أَرْضَى عُقُوقَهْ)] ففيه (الضربُ تامٌّ) (فاعِلاتُنْ) وهو (الضربُ الأولُ) من هذا البحرِ، ودخل (خبنُ الثاني) على الجزءِ الخامسِ بحسنٍ فأصبح (فَعِلاتُنْ). فكانت تفعيلاته على هذا النحو:(فاعِلاتُنْ/ فعِلاتُنْ/ فاعِلاتُنْ).
أمّا عن القافية والتي هي بمثابة (وقفة موسيقية)، يستتبعها تدفق إيقاعي مشبع بالعواطف والمشاعر الفياضة، وتصل بالبيت الشعريّ إلى أعلى درجات الإيقاع، وترتقي به إلى سدرة التنغيم فقد جاءت سهلة المخارج عذبة الحروف ومشحونة بالدلالات. ومن بين خمسة أنواع من القوافي متداولة بين الشعراء وهي: (المُتكاوس)، و(المتراكب)، و(المتدارك)،و(المترادف) وقع اختيار القاضي عيسى الطائي على النوع الخامس وهو (المتواتر): وفيه يتوسط (متحرك واحد) بين ساكنَين؛ كما في قوله: (عُقُوقَهْ) (حُقُوقَهْ) (عَبِيقَهْ).
أمّا على صعيد الإيقاع الداخلي حيث الربط بين الأصوات والدلالات والتراكيب اللغوية التي تسهم في توليد طاقة موسيقية إضافية (التكرار) و(التجنيس) و(التصريع)؛ فعلى محور [التكرار] لاحظنا استقطاب الشاعر لبعض الوحدات المتماثلة (تركيبا وصوتا ودلالة) من (جمل وألفاظ وحروف) وإعادة تدويرها داخل سياق القصيدة ليقوم من خلالها بعملية تشكيل صوتي للمعاني المتقصّدة ومن نماذجه: تكرار صوت حرف العين في البيتين الثاني الثالث [(مَرْبَعٌ للمَجْدِ فيهِ مَرْتَعٌ // والعُلا فيهِ مَتَى كَانَتْ عَتِيْقَةْ) (ذَاكَ رَبْعٌ أَنَبَتَ العِزَّ، أَمَا // أَبْصَرَتْ عَينَاكَ أَزْهَارًا أَنِيْقَةْ)]، وعلى صعيد تكرار (الكلمة) عثرنا على كلمة (العلا) مدورة بلفظها ثلاث مرات وبمعناها مرارًا لما تحمله من دلالات الفخار والمجد والإنجازات التي حققها أبو اليقظان عبر مسيرته الصحفية والنضالية. أمَّا من ناحية [التجنيس] ولما يتفجر عنه من طاقة موسيقية صدّاحة عالية تارةً أو هامسةً تارة أخرى وما تحدثه من سيميترية وتناغم وانسجام بين اللأصوات والمعاني وتحيلنا إلى دلالات شتى يمكن استنباطها مع معاودة القراءة مرةً بعد المرةِ كما في قوله (مَرْبَعٌ) و(مَرْتَعٌ)، و(خُلُقٌ)،و(خَلِيْقَةْ). ثم يأتي التصريع باستواء آخر (الصدر) في البيت الأول مع آخر (العجز) تقفيةً وإعرابًا ووزنًا. وفي هذه القصيدة جاء التصريع ناقصًا بين (حُقُوْقَهْ)(عُقُوْقَهْ) فاستقطب أذن المتلقين وجذب انتباههم إلى الجرس الموسيقي الرَّخيم الناتج عن هذا التعادل والاستواء ومهّد لهم الطريق الموصلة إلى أفكار الشاعر.
ثانيًا: البنية التصويرية
في هذه القصيدة ارتكزت الصورة الشعرية على ثلاثة محاور رئيسة ومرتبة إحصائيا من حيث عدد حضورها داخل الأبيات، وقد حلّت (الاستعارة التشخيصية) في المرتبة الأولى بجنحيها (التشخيصيّ والتجسيميّ)، ثم جاءت (الصورة الكنائية) في المرتبة الثانية، وأخيرا (التشبيه البليغ) كان في المرتبة الثالثة.
لقد وظّف القاضي عيسى الطائي (التشخيص)، وهو ذو طاقة بلاغية عالية في التعبير عن جوهر المعاني، وارتكز عليه كعمود فقري في بناء صوره البيانيّة، فأضفى على أفكاره صورا آدمية ناطقة، ونفخ من روحه التي وضعها الله بين جنبيه في الجمادات، والطبيعة فصارت بشرًا تسعى بين ظهراني القصيدة ويتفاعل معها القراء والسامعين. فمن بديع صوره التشخيصية قوله: [(وبـ"وَاديهِ" نرى الحقَّ رَفيقَه)]،و[(ينهضُوا مِنْ رَقَدَةِ الجهلِ العميقةْ)]، و[(نَهَضَ الغَرْبُ فَمَنْ يَتْبَعُهُ//يَا "مَزُونُ"]، و[(يَا رَعَى اللهُ زَمَانًا قَدْ مَضَى//لِبَنِي يَعْرُبَ لا نَعْدُو لُحُوقَه)]. وعلى صعيد الجُنْحِ الثاني للاستعارة الشعرية وهو (التجسيم) استطاع الشاعر بمهارته نقل الانطباعات والمشاعر الجياشة تجاه المجردات وإعادة صياغتها في صورة مرئية بيانية ضاجّة بالأحاسيس التي امتصّها من الواقع ثم انطبعت في مخيلته، ثم أخرجها لنا على صورة معانٍ طريفة في سياقات جديدة لم تألفها ذائقة الكلام المُعتاد. ومن روائع صوره التجسيميّة قوله: [(ذَاكَ رَبْعٌ أَنَبَتَ العِزَّ)]، و[(لَوْ غَدَا فَوقَ الثُّرّيَا دِينُنَا..أَدْرَكُوهُ)]، [(جَامَعًا للشَّمْلِ رَتَّاقًا فُتُوقَهْ)].
ثالثًا: البنية التركيبية
في القصيدة تفاعلت سائر البِنى والوحدات الشعرية؛ (الإيقاعية)،و(التصويرية) مع (البنية التركيبية) القائمة على (الانقطاع) و(التقديم والتأخير) و(التعريف والتنكير) و(الأسلوب الإنشائيّ) في إظهار بدائع القصيدة والإبانة عن جوهرها. ومن جماليات البنى التركيبية في القصيدة البراعة في توظيف (الانقطاع) بلاغيا حيث رسم الشاعر (صورة سرديّة قصصية) في الأبيات الثلاثة الأولى من قصيدته، ثم قطع (القصّ) وانتقل في البيت الرابع إلى (الوصف)، في اتصّال مسلسل دون حدوث انقطاع في الفكرة.
ثم يأتي التقديم والتأخير من (رتبة الحال وصاحبه) في قوله: [(قام يدعو للهدى منفردا)] فاستطاع بمهارة بناء نسق موسيقي للجملة الشعرية فوصل إلى مدارك القراء، وأكّد على تفرّد الممدوح بأخذ زمام المبادرة في معركته النضالية ومقاومة المستعمرين.
ثم استعمل الشاعر التنكير للدلالة على "اسم شائع في جنسه غير معَيَّن" ونلحظه في القصيدة على وجهين؛ (تنكير حقيقي)، وهو "ما له أفراد من جنسه" مثل قوله: [اتخذت الحق "سيفا"- "نهجا"- "طموحا"] للدلالة على الإطلاق، و(تنكير غير حقيقي)، وهو تنكير "ما لا يُعرف له نظير من جنسه" كقوله: (له نفسٌ) وهدفه "صرف نظر المخاطَب عن عين المنكَّر إلى صفته الاعتبارية أو القضية الأصلية".
ثم اختار القاضي الطائيّ (النداء) كأسلوب إنشائي في سائر أبيات القصيدة مستأثرا به على عداه من الأساليب كما في قوله: (يا ابن عيسى/ يا أبا اليقظان) وأسقط النداء باسمه المعروف وهو (إبراهيم) تنويهًا بفضله ودوره النضاليّ في مجابهة المستعمرين من داخل ميدان الصحافة وذلك تكريما وتشريفا وتعظيما لشخصه، ثم استخدم النداء بالعلم المفرد المبني على الضم للتبجيل والتكريم كما في قوله: (يا مزونُ).
غرض القصيدة وأفكارها
جرت قصيدة (سيل واديك) التي نظمها شاعرنا عيسى الطائيّ على تفعيلات (بحر الرمل) تحت غرض (المدح)، وهو غرض عربيّ أكثر شيوعا في الشعر العربيّ؛ بل إنّ الإحصاء الكميّ يؤكِّد أنّ المدح يُمثِّل أكثر من ثمانين في المئة من ديوان العرب؛ فضلا عن تناثره في مقاطع وسطور مدحية كاملة في معظم قصائد الشعراء العرب وإن تنوّعت مسمياته بين (الفخر)، و(الوصف)، و(التأريخ).. إلخ.
وفي هذه القصيدة أسقط القاضي عيسى الطائيّ المقدمة الطللية أوالغزلية المعتادة من الافتتاحية المتوارثة منذ عصر الرواية إلى عصر التدوين وما تلاه من أجيال شعرية وصولا إلى نهايات القرن التاسع عشر؛ بل فَجَأَنَا بمباشرة النظم بأبيات مدحية خالصة من مطلع البيت الأول إلى نهاية القصيدة؛ ولكنها جاءت جميعها مُغلّفة ومُؤطرةً بالحكمة. وهي تدور على أربعة أفكار هي:
(أ) تصوير البيئة التربوية لأبي اليقظان
نشأ أبو اليقظان منذ نعومة أظفاره في بيئة الصلاح عنوانها والإصلاح غايتها، والإسلام دستورها، والنضال سبيلها تأبى الضيم، وهيهات منها الذلة، تنام خاوية البطن، ولا تحني رأسها لمستعمر أو زنيم، نَشَّأتْ صغارها في مهادهم على أن يأخذوا الكتاب بقوة، فالمعرفة عنوانهم، واللغة سلاحهم، والفصاحة وسيلتهم، والسماحة والمسالمة مبدأهم؛ فاستمسكوا بنهج العلماء، واعتصموا بحبل الله، وجاهدوا في الله حق جهاده بالكلمة الطيبة ثم السيف الباتر على عدوهم ومن حارب دينهم ولذا قال فيه الطائي:[(صَاحِ ذَاكَ الرَّبْعَ عُجْ تَقْضِ حُقُوقَهْ // لَسْتُ أَنْسَاهُ وَلَا أَرْضَى عُقُوقَهْ) (مَرْبَعٌ للمَجْدِ فيهِ مَرْتَعٌ // والعُلا فيهِ مَتَى كَانَتْ عَتِيْقَةْ) (ذَاكَ رَبْعٌ أَنَبَتَ العِزَّ، أَمَا // أَبْصَرَتْ عَينَاكَ أَزْهَارًا أَنِيْقَةْ) (حَجَّةِ اللهِ بِهِ مِنْ فَارسٍ // أَوْضَحُوا الدِّينَ فَلَمْ نَجْهَلْ طَرِيقَهْ) (لَوْ غَدَا فَوقَ الثُّرّيَا دِينُنَا // أَدْرَكُوهُ. قَالَه خَيْرُ الخَلِيْقَةْ)].
(ب) تصوير شخصية أبي اليقظان الفكرية
لقد كان قلم أبي اليقظان، وأسلوبه البلاغي، ومقالاته الثورية في مضامينها، ولغته الرصينة في منابعها الأولى، وألفاظه المشتقة من روح العصر، وتوجهاته العقيدية تمثل مدرسة صحفية متفرّدة، التزمت الخط النضاليّ في جانبه الإسلاميّ، حتى في طريقة إخراجه الصحفيّ للجريدة نأى عن التقليد، والتزم بدوره التنويريّ وفق مباديء الشريعة الإسلامية، لم يهادن مستعمرا ولم يناور مستعطفا، بل صدع بالحق في أجل صوره لذا استحق أن يكون قدوة للكثيرين من أرباب السيف والقلم. ومن بديع الصور الذهنية التي رسمها له القاضي عيسى الطائي قوله: [(خُلُقُ الحُسْنِ بِهِ أَمَّا الْعُلَى // بِأَبِي اليَقْظَانِ لازَالَتْ خَلِيْقَةً) (لَمْ يَزَلْ لَيْثًا طَمُوحًا للعُلَى // ولَهُ فِي نَيْلِهَا نَفْسٌ مَشُوْقَة) (قَامَ يَدْعُو لِلْهُدَى مُنْفَرِدًا // وبـِ’وَادِيهِ‘ نَرَى الْحَقَّ رَفِيْقَه) (يَا ابْنَ عِيْسَى إِنَّمَا أَنْتَ فَتَى // أَنِفَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَحْيَا رَقِيْقَه) (قُمْتَ تَحْدُو القَومَ لِلذِّكْرَى لِكَي // يَنْهَضُوا مِنْ رَقْدَةِ الجَهْلِ العَمِيقَة) (فَاتَّخَذْتَ الْحَقَّ سَيْفًا ذَائِدًا // وصَلَاح القَولِ نَهْجًا وَطَرِيْقَهْ) (فَلْيَعِشْ ’وَادِي مِزَابَ‘ سَرْمَدًا // و َلْتَعِشْ أَنْتَ ظَهِيْر ًا لِلْحَقِيْقَةْ) (وَاقِفًا بِالْعَزْمِ فِي ضُفَّتِهِ // تَمْلأُ الكَأْسَ وتَسْقِينَا رَحِيْقَهْ)].
(ج) الإشادة بتاريخ عُمان والدعوة للاقتداء
منذ 106 آلاف سنة كانت عُمان من أقدم الجغرافيات المأهولة على سطح الكرة الأرضية، ومرّ عليها بغاةٌ عرب وفرس وإنجليز ولم يهنأ لهم عيش فيها، وجاء إلى سواحلها القراصنة البرتغاليون، وظلوا طوال 150 سنة يحاولون اختراق المناطق الداخلية وفشلوا، ودأب أبناء قبائها يأكلون القوات البرتغالية من أطرافها، ويطاردون فلولها حتى تحصنت في مسقط، فدخلوها عليهم سنة 1650، حتى أجلوهم مكللين بالخزي والعار، ولذا يصنفها كثير من المؤرخين بأنها "أقدم بلد مستقل من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربيّ". وفي الأبيات التالية يلخص القاضي عيسى الطائيّ تاريخ عُمان ونضالها: [(نَهَضَ الغَرْبُ فَمَنْ يَتْبَعُهُ // يَا ’مَزُونُ‘ أَنْتِ بِالسَّبْقِ حَقِيْقَةْ) (يَا رَعَى اللهُ زَمَانًا قَدْ مَضَى // لِبَنِي يَعْرُبَ لا نَعْدُو لُحُوقَه) (وزَمَانًا لِسَعيدٍ قَدْ مَضَى // نَجلِ سُلْطَانٍ وَمَنْ سَارَ طَرِيقَهْ) (مَنْ عَذِيرِي فِي تَجَزّي أَرْضِنَا؟ // إِنَّمَا وَحْدَتُنَا كَانَتْ عَرِيْقَهْ)].
(د) تصوير الدور التنويري لوادي ميزاب
لقد دأب محررو جريدة (وادي ميزاب الجزائرية) وأخواتها على انتهاج سياسة تحريرية لا توغل في المحلية، ولا تستهدف المناطقية الضيّقة، بل كانوا يسعون إلى الانفتاح على العالم الإسلاميّ، ويبحثون عن الوسائل الناجعة للوصول إلى الشريحة الأكبر من القراء في محيطها العربي واضعين نصب أعينهم التوجّه شرقا وغربا نحو راية الوحدوية الإسلامية بصوت عربيّ مبين ملتزمين بالمنهج الإصلاحيّ، وهو المعنى ذاته الذي اختتم به الطائي قصيدته مخاطبا رئيس تحريرها إبراهيم عيسى أبا اليقظان: [(يَا أَبَا اليقظانِ عِشْ فِي جَذَلٍ // جَامَعًا للشَّمْلِ رَتَّاقًا فُتُوقَهْ) (سَلْ ’وَاديكَ‘ نَفُوعٌ مَاكِثٌ // طَافِحٌ كَالمِسْكِ رَيَّاهُ عَبِيقَهْ)].