عائشة السريحية
للأسبوع الرابع على التوالي، وغزة تمحى رويدا رويدا من الخارطة، وسط غليان الشعوب ومحاولات دولية، لإيجاد نصف حل لإيقاف نزيف الدم دون جدوى.
تعدت القضية الفلسطينية كونها أمرا عقديا، أو دينيا، أو حتى قوميا، فالقضية رغم تحولها لمسألة إنسانية بحتة، إلا أن هناك أمرا جللا يشي بالحدوث. كانت غزة تقصف كل حين، وتنتهك الإنسانية كل عام، فتلقى تعاطفًا على مستوى محدود، دون أن يلتفت إليه أحد رغم مغبة الظلم الواقع عليهم.
لكن هذه المرة حين صرخ العدو المحتل، تجاوب معه العالم الغربي مندفعاً بالمساندة والدعم وتحريك الأساطيل العسكرية التي لم نشهد لمثل هذا الحشد من قبل، أي أن الأمر أخذ بعدا أعظم من أن يكون دينيا، برسالة واضحة لمخطط كبير، وسط عالم يدعي تبني نظاما علمانيا وديمقراطيا، قام بسجن وتغريم كل من يتعاطف مع قضية فلسطين، وانجرت بعد ذلك بعض الدول العربية التي أدانت واستنكرت ما فعلته المقاومة، دون النظر لما قبل السابع من أكتوبر.
إن الصهاينة ومنذ ما يُسمى بالهولوكوست قد وضعوا خطة طويلة المدى، لتأسيس اللوبي الصهيوني ليسيطر على مواقع المال والنفوذ في أمريكا ودول أورووبا، والسيطرة على دول الشرق بمصيدة التطبيع.
كانت خطتهم تحتاج للوقت حتى يتمكنوا من تحقيق الهدف، واعتمدوا على حصول مكسب صغير في كل مرة إلى أن وصلوا للمكسب الكبير، وما زالت خطة جمع المكاسب الصغيرة قائمة، ولم يكتفوا فقط بالتركيز على المال والتجارة، فخصصوا ميزانية كبرى للتحكم بالسياسة الغربية، وفرض توجهها وإن كان منافيا للأعراف الدولية، وعلى سبيل المثال يتحدث المحللون والسياسيون عن أن اللوبي الصهيوني، يقدم الدعم المالي لهم في الحملات الانتخابية مهما كانت الفاتورة، ليصلوا إلى مجلس الشيوخ، ويقول المحللون إن معظم تمويلات الحزبين الديمقراطي والجمهوري هي أموال صهيونية مقابل استمرار الدعم الصهيوني.
ناهيك عن الذين استثمروا أموالهم من أصحاب النفوذ السياسي، أو بالأصح منحوا حق الاستثمار في تل أبيب، وعدة دول أخرى وطمحوا في بناء شراكات اقتصادية، بعد السيطرة على أرض فلسطين، خصوصا بعد المتغيرات الجديدة في العالم من قيام تحالفات شرقية تقودها روسيا والصين، وبالذات بعد مبادرة "الحزام والطريق"، التي تحاول الولايات المتحدة إفشالها، وعزمها التخطيط لبناء طريق آخر تكون إسرائيل أهم طرف فيه؛ حيث يتم دمجها مع الدول العربية، وكان هذا الأمر مخطط له مع بعض دول المنطقة لتقوية النفوذ الأمريكي، كإفشال وتعطيل للنفوذ الصيني الذي يتوغل في الشرق الأوسط، وهذا الأمر يتعدى كونه أمرا تنافسيا في الاقتصاد أو الاستثمار، وإنما هو أمر سياسي وعسكري بالدرجة الأولى.
لكن أي استثمار لابُد وأن يتحقق له شرط الأمن والاستقرار، فكانت دعايات "القبة الحديدية" والدفاعات العسكرية وقوة "الجيش الذي لا يقهر"، مفتعلة من أجل إثبات أن إسرائيل دولة آمنة، وهذا ما اتضح زيفه، عقب أحداث السابع من أكتوبر؛ بل إن كثيرا من الصحفيين والناشطين الحقوقيين عند زيارتهم للأرضي المحتلة قبل الأحداث الجارية، وجدوا على أرض الواقع مؤشرات انفجار الوضع، الفصل العنصري، والتنكيل بالفلسطينيين، وعرفوا أن إسرائيل مهددة بانفجار الوضع وقلب المعادلة.
وعلى ضوء الدعاية الزائفة، كانت أمامهم عقبتان ليصبحوا القوة المهيمنة في الشرق الأوسط؛ الأولى: وجود أهل الأرض الحقيقيين، ومن ثم لا بُد من تهجيرهم أو قتلهم، والعقبة الثانية: عملية التطبيع التي حاولوا أن يوقعوا فيها عددا من الدول العربية، وما هي إلا مصيدة مؤجلة للمستقبل.
الحكومات حين تُطبِّع فإنَّ الشعوب بشكل الغالبية العظمى لن تُطبِّع، وسيحتاج الأمر لعقود من الزمن تسعى فيه الحكومات لجعل الأمر عاديًا، إلّا أن مسألة التطبيع هي أمر غير حقيقي، طالما والقضية الفلسطينية على قدر الطبخ تارة يرفعون تحته النار وتارة يخفضونها، وبعد أكتوبر، أغرق مخطط إسرائيل في الوحل، وبعثت الروح من جديد في القضية الفلسطينية، بل ونسفت كل الجهود المبذولة في التطبيع، وقلبت الرأي العالمي الذي دفع العدو مئات مليارات الدولارات ليكون هو المصدر الوحيد لنقل الخبر وإخفاء الحقيقة، فسعوا لبروبغندا جديدة وهي شيطنة حركات المقاومة، وجعل الحرب تنحى منحى صراع بين النور والظلام حسب زعمهم.
ولو كان دينيًا، لما رأينا طوائف يهودية أبرزها يهود نيويورك الذين تظاهروا بما يزيد عن عشرة آلاف يهودي ضد الصهيونية؛ الأمر ببساطة خلق قوة مسيطرة ومهيمنة داخل الشرق الأوسط تستخدم خطة طويلة المدى، تبدأ أولًا بإنهاء القضية الفلسطينية، ثم توسيع نطاق دولة الاحتلال، وشرعنة كل ما ستقوم به من اعتداءات مستقبلية حتى مع دول التطبيع، بتهمة الدفاع عن نفسها وهذا تجلى في هذه العبارة مرارا وتكرارا، وكأنها اليد العليا على القانون الدولي والتشريعات، لذلك فدول الشرق الأوسط ليست بعيدة جدا عن الاستعمار الصهيوني القادم، وهم يعدون الخطة لذلك، ولكننا لم ندرك أو نفكر بالمستقبل البعيد نظرا لأننا تعودنا على التفاعل مع آنية الأحداث، فمنح إسرائيل حق امتلاك مفاعل نووي ليس بالأمر الذي يمكن لأي مفكر تمريره بسهولة، والاستيطان المستمر الذي تنتهجه غير آبهة بأي أعراف دولية أيضًا لا يمكن تمريره، واختلاق الصراعات الداخلية في الدول العربية لخلق زعزعة الأمن وضمان التفتت وعدم الاستقرار وجر دول المنطقة للصراع العربي العربي أو الإسلامي الإسلامي، من خلال تعظيم الخلافات العقدية والمذهبية، أيضاً أمر لا يمرر.
الاستعمار الصهيوني الجديد يبني مستعمراته إما استعمارا ناعما بحيث يكون هو الحاكم الفعلي للأنظمة السياسية والسيطرة على الثروات لصالحها، وإما الاستعمار من خلال القوة بأي ذريعة كانت.
ولو أن هذه المعطيات والمؤشرات تم تجاهلها ولم يتم اتخاذ التدابير الوقائية من الآن سنجعل الأمر مرهونا على ما سوف يظهر مستقبلا، وحينها سيكون الأمر قد خرج من بين أيدينا.
إن بداية الاستعمار الناعم والذي كان يتسرب من بين أيدينا من خلال الترويج الكبير للدعاية الصهيونية وإقصاء قضايا الأمة، والترويج لمجتمعات المثليين ومحاربة كل من يعارضهم، وخلق منظمات إرهابية ودعمها بالمال والسلاح من تحت الطاولات، وكذبة وأهمية التطبيع كان عاملاً لتمييع الأفكار والأخلاق مع الزمن، وانحلال الهوية والتراث اللامادي.
ولعلَّ مواجهة الاستعمار الناعم، تحتاج قوة ناعمة مضادة، تحافظ على الثوابت والمعطيات الأخلاقية والوطنية والدينية بالقدر الذي يمنع أي مجال للاختلاف الطائفي أو المذهبي؛ حيث يعد أخطر سلاح قد يستخدمه العدو للتفكيك الداخلي، والسلاح الآخر هو القبلي والجهوي، لبث الفرقة والتعنصر.
كما إن استيراد البضائع المجهولة المصدر، والتي يتم إعادة طباعة العلامات التجارية عليها، يجب أن تكون محل التدقيق والتمحيص، فلا نعرف ماذا وأين وما هي المواد التي قد توضع لنا فيما نأكل ونشرب، وزيادة الوعي والمسؤولية لدى كل أبناء الوطن بخصوص هذا الجانب.
ومن ناحية عسكرية، لا بُد وأن تسعى دول المنطقة لبناء جيوش قوية وزيادة عددها وعتادها وتدريبها وبدء التصنيع العسكري للأسلحة وتطوير هذا المجال، تحسبًا لمستقبل لا تعرف تفاصيله، بعد أن شاهدنا جملة واحدة تحمل معنى الدفاع عن النفس ألقت بكل القوانين والتشريعات الدولية عرض الحائط.