غزة.. تهجير وحرب إقليمية أو تسوية معقولة

مرتضى بن حسن بن علي اللواتي

بغض النظر إذا كانت إسرائيل على علم بموعد هجوم حماس عليها أو أنَّها سمحت لها بتنفيذ خططها المعدة سلفًا، إلّا أنها فوجئت بنتائج الهجوم وبعدد القتلى والأسرى الإسرائيليين، كما شكّل الهجوم فشلًا ذريعًا للمنظومة الأمنية والعسكرية والسياسية الإسرائيلية وخرق هالة "الجيش الذي لا يُقهر"، وأحدث صدمة غير مسبوقة لإسرائيل.

نفذت "حماس" عمليات نوعية باستخدام الصواريخ والطائرات الشراعية والقوارب والدراجات في عملية منسقة. هجوم حماس خُطط له جيدًا والإعداد له استغرق شهورًا، وتمكنت من السيطرة على بلدات وقرى إسرائيلية، ولكن ربما لم تتصور رد فعل إسرائيل المدمر.

ومع إطالة أمد الحرب على غزة، تتفق تقديرات المحللين على أن معركة "طوفان الأقصى" أعادت الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى المربع الأول؛ أي إلى ما قبل نكبة عام 1948. الدعم الأمريكي والغربي لإسرائيل غير مسبوق، فهناك مشاركة أمريكية في الحرب بطرق متعددة منها مشاركة في التخطيط العسكري الإسرائيلي، وتبادل الضباط الأمريكيون الدروس التي تعلمتها الولايات المتحدة من قتال داعش في الموصل والفلوجة وفيتنام وغيرها من المدن.

إسرائيل منذ فترة طويلة تخشى من انفجار القنبلة الديموغرافية الفلسطينية في وجهها، وهي تحاول الآن استغلال الفرصة لتفكيكها عن طريق ترحيل كل الفلسطينيين في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة كحل نهائي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

على مرِ العقود، يرى الإسرائيليون أن وجود الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وداخل إسرائيل، يشكل تهديدًا لطابع إسرائيل "كدولة لليهود فقط". ديفيد بن جوريون أول رئيس للوزراء في إسرائيل صرح مرة بالقول إن "العرب يجب ألا يظلوا هنا، وسأبذل قصارى جهدي لترحيلهم إلى دولة عربية أخرى". كما أن الخريطة التي عرضها بنيامين نتنياهو في اجتماعات الجمعيّة العامة للأمم المتحدة قبل أشهر، غطت جميع مساحة إسرائيل دون وجود الضفة الغربيّة وقطاع غزّة.

 مصادر الهجرة اليهودية إلى إسرائيل نضبت، بينما تزيد نسبة المواليد بين عرب إسرائيل والضفة الغربية وغزة ثلاثة مرات عن نسبة مواليد اليهود، ومعنى هذا أنه في أقل من عشرين سنة ستتحول إسرائيل إلى دولة للقوميتين، وذلك يُفسد النقاء اليهودي المطلوب للدولة العبرية ويلغي مُبررات قيام إسرائيل.

حسب الإحصاءات سيتحوّل الإسرائيليون في العام 2040 إلى جيب سكاني صغير في محيط ديمغرافي فلسطيني كبير. هذه الحقيقة مُفزعة للإسرائيليين وهم يحاولون بكافة الوسائل تفكيك القنبلة الديمغرافية الفلسطينية قبل استفحال أمرها وقيامها بقلب الموازين كلّها على أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر. وربما لهذا السبب ارتفع شعار "إسرائيل دولة لليهود فقط" في السنوات الأخيرة بهدف تعويد العالم عليه تمهيدًا لطرد كل الفلسطينيين سواء في داخل إسرائيل أو الضفة الغربية أو غزة.

إسرائيل لن تقبل بوجود عنصر غير يهودي له وزن بشري تتصل هويته بما وراءها، وهي تحاول تهجير جميع الفلسطينين إلى الخارج، وإيجاد دولة يهودية نقية تأخذ كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر، وحينئذ سوف يكون السلام بالأمر الواقع قد احتوى العراق ووصل إلى حدود إيران. وقد جاء في وثيقة مؤتمر "هرتزيليا" الأول الذي انعقد في عام 2000 تحت عنوان "ميزان المناعة والأمن القومي.. اتجاهات سياسة عامة" أن الشعب الفلسطيني يُضاعف عدده مرة كل عقدين، وذلك يعني أن "حرب الأرحام" بين الفلسطينيين واليهود ستنتهي حكمًا لمصلحة الفلسطينيين.

أيديولوجية إسرائيل قامت على مبدأ طرد السكان العرب وإحلال اليهود مكانهم. والهجرة اليهودية من الخارج قد نضبت، بينما زادت الهجرة اليهودية المعاكسة إلى الخارج. ولذلك تريد إسرائيل طرد كل فلسطينيي 1948 ومعهم فلسطينيي غزة والضفة الغربية إلى الأردن ومنها إلى العراق وتوطين اللاجيئين الفلسطينيين؛ حيث هم في الدول المختلفة، إضافة إلى ذلك فإن المجتمع الاسرائيلي في طريقه إلى مزيد من الشيخوخة، بينما العرب هم في فترة الفتوة والذي سيزيد الولادات والإنجاب عندهم. إسرائيل لن تقبل أن تكون دولة ذات قوميتين ما يفسد النقاء اليهودي المطلوب للدولة العبرية!

إسرائيل تعتقد أيضًا أن النظام الإسلامي في إيران المعادي لها والذي تعتبره النظام الوحيد الذي يهددها وجوديًا، سوف لن يبقى طويلًا، ويحل محله نظام يمكن لإسرائيل أن تصادقه، كما حدث ذات يوم بالأمس القريب. إسرائيل أيضًا تعتقد أن وجود القوات الأمريكية في العراق والخليج وضعف العراق وتفتت سوريا، سوف يسمح بقيام دولة كردية في العراق وتستطيع إسرائيل من التعامل معها!

خريطة بهذا الشكل تحجز جنوب الجزيرة العربية عن شمالها في إقليم الهلال الخصيب! الخريطة تحتوي الكثير من حقول النفط والغاز وموانئ وأنابيب نقله أو تقترب منها كثيرًا. كل ذلك سوف يؤدي إلى تطويق سوريا وإحكام الحصار حولها، ومن ثم يصبح مستقبل سوريا هي نفسها قضية مطروحة للبحث.

بعض الآراء تعتقد أن ما تبقى من الضمير العالمي، لن يتحمل هذا التهجير الجماعي للسكان، لكن سكوت الضمير العالمي عن المجازر الحاصلة في غزة وما حصل في يوغوسلافيا السابقة من خلع 4 ملايين من البشر في بدايات القرن الواحد والعشرين قد يجعل من المستحيل واقعًا. ومع الأسف فإن موازين القوة في المنطقة لم تعد رادعةً، ولعلها أصبحت دافعًا.

لنتذكر كيف تحول المشروع الصهيونى خلال القرن العشرين، من حلم "هيرتزل" إلى وعد "بلفور"، ومن قرار التقسيم في نيويورك إلى موائد التفاوض في مدريد، لنستنتج أن العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين قد يجعل المستحيل ممكنًا، بقدر ما أن القرن العشرين حوّل الأسطورة واقعًا!

إسرائيل لا تريد أن تجد مسلمين ومسيحيين في الدولة اليهودية؛ بل تريد دولة واحدة، ودينًا واحدًا يوفر أرضية دينية وثقافية واحدة، ويومها، سوف تحدد إسرائيل حدودها وتصدر قانون الجنسية الإسرائيلية الذي لم يصدر حتى الآن، وتموت أوسلو وكل الاتفاقيات الأخرى ومشروع حل الدولتين.

لكن السيناريو الأكثر رعبًا لإسرائيل هو فشلها في هجومها البري، والمقاومة لا تزال واقفة على قدميها، وسلاحها والأسرى في يدها. وإذا تعثر الهجوم الإسرائيلي مع ارتفاع عدد القتلى، فإنه سيؤدي إلى رد فعل عنيف داخل إسرائيل وخارجها، وهذا قد يجبر تل أبيب على تبادل الأسرى والخضوع للضغوط للحد من نطاق الهجوم البري، أو إلغائه.

سيفتح هذا السيناريو الباب لعقد صفقة تبادل يتم فيها تبييض السجون الإسرائيلية مقابل أسرى الاحتلال، وهذا السيناريو قد يفتح المجال لأفق سياسي بسبب تغيُّر موازين القوى، بما قد يسمح بتسوية تحقق الحد الأدنى من حقوق للفلسطينيين؛ أي إنه ستكون هناك فرصة أفضل لإنهاء الاحتلال بسبب قوة المقاومة، وخشية المجتمع الدولي من أن يؤدي عدم حل القضية الفلسطينية إلى حروب وأزمات تهدد الاستقرار والأمن والسلام في المنطقة والعالم كله.

ستجد الأطراف كافة أن لا حل ولا مخرج من المأزق الحالي سوى الاستماع إلى صوت العقل والحوار والبحث عن مخارج سلمية وأمنة.

وستكون لما بعد وقف العدوان، آثارٌ واسعة غير مسبوقة، داخل كيان الاحتلال والأراضي الفلسطينية، ستواجه "إسرائيل" سلسلة أزمات إجتماعية وسياسية واقتصادية عميقة،لن تهدد الحكومة وحسب؛ بل مصير ومستقبل النظام السياسي "الإسرائيلي" برمته، وكذلك الحال بخصوص مستقبل السلطة الوطنية الفلسطينية الذي أصبح على المحك وفقدت الكثير من حضورها الداخلي والعربي، مقابل دعم شعبي كبير لفصائل المقاومة الفلسطينية، علاوة على أن نتائج الحرب قد تغير ملامح الشرق الأوسط برمته.