الوطن.. بين النقد وجلد الذات

 

د. محمد بن خلفان العاصمي

يُحكى أنَّ رجلًا صينيًا أراد الانتحار فتوجه إلى أحد الجبال وفي الطريق لقي كهلًا يعيش في كوخ وحيدًا، فدعاه للمبيت معه، وبعد تردد وافق الرجل ودخل الكوخ، لكنه ظل مستيقظًا، فسأله الكهل عن قصته، ردَّ عليه الرجل وطلب منه أن يدعه في حال سبيله، ولمّا أصرّ عليه، حكى له قصته، وقال له حين ولدتُ توفيت والدتي، وما إن وصلت أنا وأبي إلى البيت حتى توفي هو الآخر، ثم أُخِذتُ إلى دار للأيتام لأنَّ عائلتي أرادوا التخلص مني لاعتقادهم بالنحس الذي يُرافقني بعد أن أصابتهم الرهبة، وفي دار الأيتام، أبتعد الكُل عني وكنتُ وحيدًا لأنني كلما عقدتُ صداقةً مع أحدهم أصيب بمكروه، إلى أن كبرتُ وتزوجتُ ظنًا مني أنَّ هذا النحس سيتركني، لكن في ليلة زفافي مرضت زوجتي مرضًا شديدًا وخشيتُ عليها الموت، فغادرتُ بلدتي ومن يومها وأنا أحاول ألّا أقترب من أحد حتى لا يُصاب بمكروه، طلب الكهل منه أن ينام وفي الصباح سيتحدثون، نام الرجل وفي الصباح وجد الكهل أمامه يبتسم ويقول له ها أنا ذا أمامك لم يُصبني أي مكروه؛ بل إن حتى دجاجتي التي لا تبيض باضت اليوم، لقد رسّخت في عقلك الباطن أنك سيئ الحظ لذلك صدقت نفسك وأصبحت تربط كل ما هو سيئ بك، ولو أنَّك نظرت للأمور الإيجابية التي حدثت لك في حياتك لوجدتها أكثر من السيئة، لقد نسيت أن هناك شيء اسمه قضاء وقدر وأخذت تجلد ذاتك دون رحمة.

كم من شخص بيننا يمارس جلد الذات ولوم النفس على كثير من الأمور لمرحلة أصبح البعض فاقدًا لتقديره لذاته؟ إن أسوأ ما يقدمه جلد الذات للفرد هو إيصاله لمرحلة السخط والسوداوية وتوقع الأسوأ والنظر إلى الجزء الفارغ من الكأس وعدم الإيمان بقابلية الأوضاع للتبدل، وهل لهذا الأمر انعكاس سلبي على تقدير الفرد لذاته وتقديره لغيره فيصل به الحال إلى المعاناة المستمرة؟!

إننا- كأفراد- ربما نمارس جلد الذات دون أن نشعر حتى على مستوى الوطن فندخل دائمًا في مقارنات مع الغير وننظر للنواقص بعدسة مكبرة ونضخمها لدرجة تصبح الرؤية من خلالها منعدمة، ونبالغ في النقد السلبي بحسن ظن في أحيان كثيرة لدرجة نرى أن كل منجز خلفه الكثير من الفساد والشك والتأويل ونبحث من خلاله عن عثرة نضعها في إطار مزخرف باسم الرأي وحريته وأحقية ممارسته وفق ما أقرته القوانين، هذه الممارسة تعود بالضرر علينا في الدرجة الأولى؛ حيث إن القيم الوطنية تنمو إذا ما عززت ورويت بمشاعر الفخر والاعتزاز والتباهي بالأوطان وإعلاء قيم الانتماء والرضا  بما لدينا وتنتقل هذه المشاعر للأجيال عندما يشاهدونها ويحسونها لدى الكبار والعكس صحيح فمشاعر السخط والنقمة تنمي لدى الفرد الحقد والغضب والشعور بالظلم والكراهية مما يؤثر سلبًا على الأجيال التي تشاهد كل ذلك أمامها.

إنَّ للأوطان حقوقًا علينا، ومهما حدث لا بُد من الفصل بين الأوطان والممارسات التي تصدر من الأفراد.. ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي "وللأوطان في دم كل حر // يد سلفت ودين مستحق"، فإن كان للوطن حق الدم علينا فمن الأجدر أن نوفِّي حقه في الحفاظ عليه من خلال توجيه مشاعر الرضا والبذل والعطاء في سبيل رفعته ووضعه في مكانته المستحقة، والإخلاص في العمل حتى لا يصل بنا الحال للإساءة له من خلال ممارساتنا التي تنتهي بوقوع الظلم على الفرد أو الجماعة؛ فالمُستغِل لسلطته دون وجه حق هو أحد أسباب تنامي الشعور بعدم الرضا والوصول بالمواطن إلى جلد الذات والمقارنة وتقزيم المنجزات، وعليه أن يعرف أنه مساهم في هذا الحال.

لا أدعو لعدم تقديم النقد؛ بل على العكس تمامًا، فأي مجتمع لا يمارس النقد بشكله الصحيح هو مجتمع متهالك زائل لا محالة، ويدمر ذاته تلقائيًا، لأن النقد مفتاح لتجويد العمل والرقي بالأهداف، وسبيلًا للوصول إلى الغايات بشكل أسرع وأتقن..

وأخيرًا.. النقد الحقيقي ينطلق من قيم عالية تتمثل في الإخلاص والتفاني والتضحية وإنكار الذات، ولا يُتقِن النقد إلّا من يسعى لصلاح مجتمعه ورفعته بصدق.

تعليق عبر الفيس بوك