محاربة الفساد بين الواقع والطموح!

 

د. محمد بن عوض المشيخي

الفساد المالي والإداري من الأمراض الفتاكة التي ابتلت بها مُعظم دول العالم في الشرق والغرب، فعندما يتولى ضعاف النفس والانتهازيون والأنانيون الإشراف على المال العام دون رقابة قوية وخبرات واسعة تُمكِّن القائمين بالأجهزة الرقابية المتخصصة في هذا الشأن من القيام بعملهم على أكمل وجه، وكذلك دون تفويض مطلق من رأس الهرم في السلطة العليا في أي دولة تحرص على محاربة الفساد والمفسدين في الأرض، هنا يُصنَّف مثل هذا البلد وكرًا يُعشعش في أرجائه اللصوص الذين ينهبون المال العام ويحولون موارده إلى الخارج، فيدخل المجتمع بمختلف أفراده في دائرة الفقراء، من هنا تُجبرهم ظروف الحياة القاسية على الهجرة إلى صقاع الأرض للبحث عن مصدر الرزق خارج الوطن، وذلك كما كان حال آبائنا وأجدادنا قبل أكثر من خمسين سنة.

ومن حسن الطالع وتحقيقًا للشفافية وبتوجيه كريم من لدن قائد هذا البلد، اطلع الجميع عبر قنوات الإعلام التقليدية والرقمية بمختلف أنواعها الرسمية والخاصة، على تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية للعام الماضي 2022، والذي كان في فترة من الفترات حكرًا على السلطة التنفيذية من أعضاء الحكومة ثم يتم فلترته وإرساله في وقت لاحق إلى مجلس عُمان.

كشف التقرير الجديد، عن تحصيل واسترجاع عشرات الملايين من الريالات إلى خزينة الدولة لتُستخدم من جديد لبناء الوطن ومرافقه الحيوية كالمدارس والطرق والمستشفيات، ولأهم من ذلك كله كشف أسماء الوزارات والهيئات الحكومية التي تسببت في إهدار المال العام أو عليها بعض الملاحظات والذي يفترض أن يتحمل تلك المسؤولية رئيس الوحدة، حتى ولو كان غير متسبب في تلك المخالفات. وقد اشتمل تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية الوحدات الحكومية على بعض الملاحظات الإدارية أو المالية وعددها عشر بهدف التذكير بالحقوق والواجبات المترتبة على مثل تلك المخالفات وتصحيحها بأسرع وقت ممكن ومعظمها وزارات خدمية. 

يبدو لي أن الوقت حان لمحاصرة الفساد والقضاء نهائيًا على من تسول له نفسه أيًّا كان من هؤلاء الطامعين بثروات هذا الوطن العزيز، وكذلك المخالفين والمشجعين على منح المناصب بالواسطة للأقارب وأصحاب النفوذ. ولا يمكن يتحقق ذلك بشكل كامل إلا بتضافر جهود أجهزة الدولة الأمنية منها والمدنية والقانونية، وأفراد المجتمع العماني بشكل عام، وفي مقدمة هذه الجهات جهازي الادعاء العام وجهاز الرقابة المالية وقبل ذلك القضاء العماني النزيه.

بالفعل فقد أثبتت الأيام تفاني أبناء عمان وحرصهم على مصلحة الوطن، وعلى وجه الخصوص الذين يعملون في الأجهزة الأمنية والرقابية وإخلاصهم لله وعمان والسلطان، فتلك الثوابت والأركان الأساسية التي لا يُغيِّرها الزمن أصبحت واضحة المعالم ويشار لها بالبنان على مستوى المنطقة العربية والإقليم بشكل خاص، وذلك من خلال ما تنعم به السلطنة هذه الأيام من أمن واستقرار ورخاء اقتصادي، فالسلطنة واحة للأمن والأمان في منطقة ملتهبة بالصراعات والحروب والخلافات بين الأشقاء، وعلى الرغم من ذلك، نجح قائد هذا البلد المعطاء، جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، بفضل من الله وحكمته المعهودة ونظرته الثاقبة للحاضر والمستقبل، في انتشال هذا البلد من الأزمات الاقتصادية التي كانت تعصف بالعالم في بداية توليه مقاليد الأمور، وكذلك نهجه الجديد في محاربة الفساد بكل أنواعه. وفي خطابه الثاني في فبراير، والثالث في نوفمبر قبل أكثر من عامين، عبر جلالته بوضوح عن عزم الحكومة على محاربة الفساد، وترسيخ دولة المؤسسات والقانون على هذه الأرض الطيبة.

الكل في هذا الوطن يُثمِّن الجهود الجبارة المبذولة من جهاز الرقابة والتي طالت كل من يقع في المحظور مهما كانت مكانته في الدولة، كما أن تشديد الرقابة وتوسيع نطاقها على الكبار من عالي القوم الذين في عهدتهم مئات الملايين؛ بل والمليارات لدى البعض منهم، وذلك قبل صغار الموظفين الذين تحت يديهم القليل من المال؛ أصبح مطلب شعبي من عامة الناس.

فهذا لا يعني بأي حال من الأحوال تنزيه أو التسامح مع المواطن العادي عند وقوعه في مستقنع الفساد؛ فهو شريك أساسي في النزاهة والمحاسبة، وعليه تقع مسؤوليات كبيرة في محاربة الفساد؛ ففساد المواطن العادي لا يقل خطورة عن فساد المسؤول الكبير، الذي كان بالأمس في مرتبة وظيفية أقل مما هو عليه الآن، والموظف الذي يقتضي عمله إنهاء إجراءات المراجعين ويُماطل أو يغيب عن عمله، ويتهاون في القيام بواجبه المقدس، والتاجر الذي يغش الناس في البضائع؛ يجب أن يتم إخضاع هؤلاء لمبدأ الرقابة ثم المحاسبة؛ مثلهم كمثل المسؤول الكبير المقصر بالواجب الوطني.

يجب التأكيد هنا على أن محاربة الفساد والقضاء على أسبابه، لا يمكن أن تتحقق بالنوايا الحسنة للمسؤولين؛ فالنفس أمارةٌ بالسوء؛ بل يجب إطلاق سلطة الإعلام، وخاصةً الصحافة المستقلة؛ للقيام بدورها الرقابي المعهود؛ إذ لا يُمكن للإعلام كسلطة رابعة أن يتناغم مع الأحداث ويقوم بدوره الرقابي إلّا في ظل وجود الجناح الآخر للحرية والمراقبة، والمتمثل بمجلس الشورى، هذا المجلس الذي أصبح ناضجًا، وتجاوزت تجربته البرلمانية عقودًا ثلاثة.

وفي الختام.. أصبح من الضروري دمج جميع أجهزة الدولة الرقابية، تحت مظلة واحدة، ولا يستثنى أحدٌ من الرقابة والمحاسبة في هذا البلد؛ مهما كبر منصبه أو ارتفع شأنه، فمعايير النزاهة والشفافية والحوكمة، التي يوجه بها جلالة السلطان المعظم، تتطلب منَّا ذلك؛ خاصة وأن قطار محاربة الفساد قد انطلق ولن يتوقف.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري