الخلافات السنوية

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

تتفق مُعظم المجتمعات في أحوالها الإنسانية وتنظيماتها الحياتية حتى تصل أو تقترب جدًا من التآلف في معظم شؤونها وإن شابها شيء من الفوارق المعتادة في تقسيماتها الطبقية والرتبية أو الدينية والعقائدية ولكنها تبقى في حدود التفاهم المناهض للنزاع، ذلك بأن المجتمعات الإنسانية القويمة قد فهمت أن اتساع هوة الخلافات مهدد لسلامها وبقائها وسيهوي بها في محاضن الشقاق وتشعبات دقيقة تنتج فروعًا إضافية من خصومة وتشاكس يعظمان بمرور الوقت حتى إذا اتسع الصدع استحال رأبه، وبديهيًا لا بأس في الخلاف وهو أمر وارد وقد يكون من الأمور الصحية أحيانًا إلا أن الحياد عن مبدأ الخلاف الأصلي يمرج بالحقيقة بين برهنة وإثبات ودحض وتشكيك فيحلق المختلفون في السهو والغواية وسط غمامها بعيدًا عن مواطن الاتفاق ومساكن تقريب وجهات النظر.

إن الإصرار على الموقف في مسألة خلاف فرعية ومحاولة فرضه قد يشيح بوجه المجتمع عن هدفه النبيل في التعايش السلمي عند تغليب السيطرة والإصرار على الموقف، سواءً كان بالتعنُت والتكلف أو بالإكراه والتعسف وهنا يفرغ أصل التفاهم وقبول الرأي الآخر من محتواه وربما تحل الكراهية محله والبغضاء، وبما أنها مشاعر إنسانية عميقة فإن غرور النفس غالبًا مايركن إلى فرض الرأي من مداخل الاعتداد والقناعة شبة المطلقة برصانة الموقف وقد تكون مدعومة بأدلة وإثباتات من الطرفين يعضدان بهما موقفيهما ويقويانه ليبقيا أضدادًا دون تراجع أو تنازل أحدهما ولو قليلًا من باب تغليب الحكمة والعقلانية للمنفعة العامة.

يؤدي مجتمعنا أدوارًا متعددة ذات صلة ببقائه على روح التفاهم ومنهج حسن الظن في التعاطي فيما بينه إلى حد بعيد من خلال تأصيل التواد وربط وشائج التسامح والتلاحم مع الفهم الغزير لتلك الروح الطُلع، وفي معظم الأحيان فإن مجتمعنا يُهمِّش السلوكيات الفردية التي تنم عن لا مبالاة أو عدم فهم بأصالة الثقافة المبنية على أسس متينة ارتبطت بالأرض والإنسان والمكان وشُيدت على قاعدة شرعية صلبة تستنكر الممارسات الغالطة وتستقبحها وتستملح الصائب منها وتستحسنها ثم تهذبها بالآداب العرفية وتسبغ عليها العقول الحكيمة على مر الزمان صبغة الترشيد والتقنين مما أهلها للقبول والاستساغة بدون تضارب وتضاد أو مناكفة وعداء.

لم تكن الخلافات حول أمر أو شأن ما من شؤون المجتمع سابقًا موجودة أو لم تتخذ لنفسها مسارًا شبيه بالمسلمات المرحلية أو الدورية الدائمة، خصوصًا المناسبات ذات الطابع السنوي الحولي وقد يُعزى ذلك إلى نوع من انغلاق المجتمعات على بعضها وضعف التواصل في مشاركة نفس المناسبة مع مجتمعات أخرى بعيدة عنها وحتى مع دخول عصر التلفزيون ذي القناة المحلية الواحدة، ولكن بمرور الوقت وازدهار عالم التواصل الذي بات شبيهًا بأعصاب العمود الفقري لنقل وتبادل المعلومات وأخبار المجتمعات القريبة والبعيدة فيما بينها، فأصبح نقل المعلومة عن عادة مجتمعية ذات صلة بموسم أو معتقد أومذهب بالغ السرعة واليسر فيطلع عليها مجتمع آخر ثم يبادرها بعض أفراده حسب ثقافتهم بالقبول أو الرفض، ليبدأ سيلٌ جدلي من الاستحسان بمواجهة سيل آخر من الاستنكار يتكثف معه زبد غليظ نتيجة صدام التيارين المتضادين ومايلبثان أن يضمحلا مع نهاية المناسبة التي لا تتجاوز نهارًا وليلة، وقد اعتدنا على مايشبه ذلك في مواقع التواصل.

وهكذا هو الحال مع المناسبات ذات السمة الدينية كالمولد النبوي والإسراء والمعراج؛ إذ يستروح جانب من الناس الحفاوة بهما وإقامة الاحتفالات الدالة على تعظيمهما في أطر وحدود أحكَمَ تقنينها وترشيدها المجتمع، بينما جانب آخر لا يحبذ ذلك؛ فيعترك الجانبان في جدل سنوي متصل لا يبدو أن له نهاية، إمعانًا من كل جانب في محاولة إقناع الآخر بشتى السبل، لكن قبول وجهة النظر تتسيد الموقف وفي نفس كل منهما شيء لا يُصرح به، وفي نطاق مشابه كذلك مع عيدي الفطر والأضحى بين مكره للتهنئة قبل صلاة العيد ومستحب لها، وقد لا تتفق بعض الأطراف حول مسألة التعمد بافتعال خلاف من لا خلاف أصلًا، والتذكير بأن أصل الاتفاق هو فرحة العيدين.

بل وقد يصل الإغراق المتعمد في الخلافات إلى المواسم والمنتجات والعادات والتقاليد في بعض الأحيان؛ فما أن يحل موسم الخريف حتى تنبري أقلام النقد في كل شيء تقريبًا، بداية من الجاهزية العامة ومرورًا بالمرافق والخدمات والبنية التحتية، وصولًا للأسعار والزحام وانتهاءً بمقترحات التطوير. وقد درجت على ذلك العادة حين تشتد العواصف الذهنية سنويًا، ثم تخبت تدريجيًا مع انتهاء الموسم فيعم الصمت كالذي يسبق العاصفة أرجاء جموع المتناقدين إلى العام المقبل. حتى إن رمان الجبل الأخضر لم يسلم هو الآخر من الخلاف والجدل حول أسعاره؛ إذ نجد المقارنات مع منتجات مستوردة في كل موسم حاضرة بقوة، وكأن منتجي رماننا قد أجبروا الناس على شرائه باعتباره سلعةً أساسية لا غنى عنها وهو ليس كذلك، وبما أن لا إكراه في البيع والشراء هو الأصل لمن أراد، والتاجر هو الأعلم بمصلحته، فإن عامل الخلاف هنا ينتفي تمامًا ولا وجود له إلا عند من يريد افتعاله.

وما أن نفرغ من ذلك حتى يطالعنا أحدهم وقد اتقدت فرائصه بالقول: "لماذا لا يوجد يوم للرجل كيوم المرأة"! ومن العجيب أن يتداخل معه بعض المؤيدين من أولي القوامة وما أغربهم من رجال يستعظمون يومًا خاصًا لأمهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم وبناتهم مع أن الأصل يستروح بأن تكون كل الأيام لهن فأنعم بهن وأكرم وليس ذلك الاعتراض الممجوج لشيء إلا لافتعال سفسطة جدلية ليس أكثر.

ونستمر في افتعال الخلافات السنوية حول المناسبات الاجتماعية التي كانت تطرب نفوس المجتمع ويهفو إليها في حدوده الضيقة، كالقرانقشوه وحول حول والنيروز وقتل الحنش وغيرها، مع أن الأصل لا علاقة له بالكفر والإيمان، بقدر ما هي مناسبات تآلف وانسجام اجتماعي تهدف في أصلها إلى نوع من التراحم والتلاؤم، لكن ما أُدخل عليها من مظاهر إضافية وعقبها نشوء تباين في الخلافات هو ما حاد بها عن مضمونها، وبطبيعة الحال سيكون تركها أخيرًا هو أقرب لرأب الخلاف رضوة للطرف المضاد المنادي بعدم ضرورتها أو أهليتها.

إن مواطن الاتفاق أوسع بكثير من بؤر الاختلاف، ولكنَّ ذي الفكر المحدود لا يرى إلا تفرُّعات التناقض البعيدة ويغفل عن جذور الالتقاء القريبة.