علي بن حبيب اللواتي
عندما هبت العواصف وأرعدت السماء وتحركت الأنواء المناخية لتطيح بالجسور وتغرق القرى والمدن وتحطم الشوارع وتقلع الأشجار وتطيح بالجسور، فهبت حينها كل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية ومؤسسات المجتمع والأفراد والجماعات لتلبي نداء الوطن لترسم أروع وأجمل لوحة من التكاتف الوطني لنجدة الناس والمدن المتضررة، وقتها كانت هي الأولوية العليا الوحيدة والقصوى لكل تلك المؤسسات فشمخت بعنفوان الرجل الواحد ليزيل كل آثار إعصار جونو المدمرة... إنها اللحمة الوطنية قد تجلت بهذا الصمود تقف خلف القيادة لإنقاذ الوطن.
إنه فقه الأولويات الذي فرض نفسه على كل المشهد الوطني بكل تفاصيله.
وبعد ذلك بدأت جائحة كورونا التي أثرت على حركة المجتمع فكان من آثارها بطء الحركة الاقتصادية لتنكمش، وليتزامن ذلك مع انخفاض أسعار بيع النفط إلى ما دون الـ28 دولارًا، ليتراجع النمو الاقتصادي العالمي، وتتأثر جميع الدول المعتمدة على واردات بيع النفط والغاز.
هنا لجأت بعض الدول لمعالجة تلك الآثار بتطبيق خطط التوازن المالي لكي تعيد بناء الأولويات الوطنية بالحفاظ على كيان الدولة كتسديد الديون الخارجية وتقليل الإنفاق وضبط جودته ومنع الهدر وفرض مختلف أنواع الضرائب تحت مسميات عديدة هدفها النهائي رفع من واردات الدولة لتتمكن من تسديد ديونها السابقة وتبدأ بإعادة تحريك قطار التنمية من جديد. ودول أخرى قامت بإعادة توجيه مواردها المالية لتحفز اقتصادها بفروعه المتعددة ليكون كجرعات أوكسجين لإنعاش الجسد الاقتصادي وتحريك السوق وتحفيز النمو وتوسيع الأعمال وتوفير الوظائف من جديد للمجتمع. ودول أخرى كالصين مسكت العصاة من المنتصف فجمعت بين التوجهين، لتعود لتحقيق مستويات نمو متسارعة فتسبق العالم.
استطعنا أن ننجح في تطبيق التوازن المالي ولكننا للأسف لم نسع إلى تطبيق التوازن الاقتصادي، وبينهما فارق عظيم؛ فالتوازن المالي مكَّننا من السيطرة على الدين العام من خلال إجراءات طُبقت على فئات المجتمع، ولكن بسبب عدم تطبيق مفردات وخطط التوازن الاقتصادي لم يساعدنا على توسيع قاعدة أنشطة اقتصادية جديدة لتساهم في دوران العجلة الاقتصادية لأسباب عديدة؛ منها: عدم القدرة على تحفيز الاستثمارات المحلية بقوة ولا جلب الاستثمارات الأجنبية الحقيقه بكثافة، رغم الجهد المبذول في تغيير القوانين، لكننا وجدنا أنفسنا في دوامة عدم التكامل وتبسيط الإجراءات وعدم الشفافية الإحصائية.
وعدم توسيع القاعدة الاقتصادية جعلنا نشاهد حدوث تغيرات اجتماعية لم نعهدها من قبل منها التسريح الجماعي للقوى البشرية العمانية، ازدياد عدد الباحثين عن عمل، وبتعبير آخر انتشار البطالة بين الفئات العمرية الشابة، لتتخطى أعدادهم 150 ألفًا تقريبًا، في مجتمع لم يتجاوز تعداده السكاني الوطني 3 ملايين مواطن، لتكون بذلك شريحة عريضة مُعطَّلة قدراتها ولا تنتج لتطوير الاقتصاد.
هذا الوضع انعكس على انتشار صور العوز والفقر بين فئات المجتمع، فانتشرت مشاهد مؤلمة؛ حيث النساء والصبية يبيعون الشاي والماء ومختلف الأغذية بالشواع بحثا على لقمة كريمة.
وقد كثرت وتعددت الدعاوى القانونية ضد المُسرَّحين الذين توقف مصدر رزقهم فجأة، فلم يتمكنوا من الوفاء بالتزاماتهم المالية (القروض)، فوجدوا أنفسهم خلف قضبان السجون وبيعت ممتلكات البعض منهم. وفي هذا السياق لا يفوتني هنا إلا أن أرفع القبعات احترامًا وإجلالًا للجمعيات والفرق الخيرية المنتشرة في ربوع الوطن التي بادرت بكل وفاء بواجب توفير نوع من المساعدات الاجتماعية لتلك الفئات المتضررة.
وأزمة الباحثين عن عمل أصبحت الآن بمرتبة الأولوية الوطنية الأولى العليا بلا منازع، حتى إنها قد سبقت وعلت على بقية الأولويات المالية الأخرى؛ فحفظ المجتمع أولى وأسمى من أي أهداف أخرى.
إن فقه الأولويات والمنطق يُعيد لنا توجيه ترتيب الأولويات والأهداف الوطنية ليقرر أن معالجة الأزمة الاجتماعية الحادة هو الواجب الحالي والتركيز عليها بفاعلية من دون تأخير ولا تردد، لما لها من إنعكاسات سلبية على المستوى الوطني، فيتم بذل كل الجهود في التوظيف والتشغيل وكذلك التمكين للشباب العاطل والمسرحين كطرف في معادلة الحاضر، والإعداد للمستقبل بزيادة البعثات الداخلية مع توفير مخصصات مالية لكل مقبول للدراسة محليًا وزيادة البعثات الخارجية، إنهم جيل المستقبل وحاملين رايات التقدم، خاصةً أن الوضع المالي في تحسن بارتفاع سعر برميل للنفط الذي تجاوز 90 دولارًا علمًا بأنَّ الموازنة بُنيت على سعر 55 دولارًا، وأن الدين العام قد انخفض والتصنيف المالي قد تحسن.
لم تعد الأولوية الآن إنشاء مبانٍ حكومية جديدة ويُوجِد لها البدائل ولا حتى إقامة مشاريع لا تتماشى مع تلبية احتياجات العسر الاجتماعي الوطني التي يمكن حصرها بدفع عجلة التوظيف والتشغيل والتمكين والتمويل لأفراد المجتمع، وبرفع رواتب المتقاعدين من كلا القطاعين: كقطار منطلق بعجلة متسارعة ليصل لأهدافه الوطنية المُقدَّسة.