علي حبيب اللواتي
في ظل التَّحديات الاقتصادية المُتصاعدة، تبرز تطبيقات الاقتصاد الاجتماعي كحل لبناء مجتمعات قوية ومستدامة، من خلال السعي لإبقاء الأموال داخل المجتمع المحلي لأطول فترة ممكنة، عبر إعادة تدوير الإنفاق بين أفراده ومؤسساته.
ويتحقق هذا عندما يشتري الأفراد من المتاجر المحلية، ويستثمرون في المشاريع المجتمعية المحلية، ويتعاملون مع الخدمات التي يديرها أبناء المجتمع نفسه. وهناك أمثلة واقعية للنموذج تطبق حاليًا عالميًا أثبتت جدواها الاقتصادية، منها: الجالية الصينية في أمريكا وكندا انشأت أحياء تجارية مغلقة ("تشاينا تاون") تدور فيها الثروة داخل الجالية، والجاليات الآسيوية في بريطانيا والدول الأوروبية وكذلك في أفريقيا؛ إذ طورت شبكات تجارية وتعليمية وصحية تمول نفسها وتخدم أفراد مجتمع الجالية، والجاليات الإسلامية في أوروبا (مثل الباكستانية والمغربية) قد أوجدت أسواقًا داخلية، ومدارس، ومصارف صغيرة تعمل لخدمة المجتمع، والجاليات الفلبينية والآسيوية في الخليج التي استطاعت تطوير شبكات تحويل مالي ومطاعم ومدارس ومحلات تجارية وممارسة مختلف الأنشطة التجارية المسموحة.
هذه النماذج تعتمد على ثلاثة عناصر أساسية: الثقة المجتمعية، والتعاون والتنسيق العميق بينهم، والتمويل الذاتي لمشاريعهم.
نستنج من هذه المقدمة ونستخلص النتيجة أنه يمكن تطبيق مفاهيم الاقتصاد الاجتماعي، بجدارة في عُماننا الحبيبة، عبر إنشاء مشروع "الجمعيات التعاونية الاستهلاكية"، ونشرها في ولاياتنا الـ63 العزيزة. وتقوم فكرتها على بناء شراكة ثلاثية بين: المجتمع المحلي: كمساهمين ومستفيدين ومشغلين في نفس الوقت. وجهاز الاستثمار العُماني: كممول وداعم استراتيجي يضمن جودة البنية الأساسية والإشراف. وأحد البنوك كجهة تمويل وتوفير حلول إدارة المال وحمايته وتقديم الخدمات المصرفية المتنوعة.
ومن طرق عمل وتشغيل الجمعيات التعاونية الاستهلاكية الآتي:
- نظام تأجير المساحات؛ حيث تؤجر الجمعية المساحات للتجار المحليين مقابل إيجار شهري أو سنوي.
- نظام المشاركة في الأرباح: من خلال تعاون الجمعية مع التاجر المحلي وتشاركه في الأرباح بنسبة متفق عليها.
- نظام الإدارة المباشرة: تدير الجمعية الأقسام بنفسها وتوظف موظفين للتشغيل.
- نظام الفرنشايز: تمنح الجمعية التاجر المحلي حق استخدام العلامة التجارية والنماذج التشغيلية.
- نظام الشراكة مع المنتجين المحليين: نتعاون الجمعية مع المنتجين المحليين لعرض منتجاتهم.
- نظام البيع بالوكالة: تعمل الجمعية كوكيل للمنتجين أو الموردين وتحصل على عمولة متفق عليها.
- نظام الشراء الجماعي: تشتري الجمعية كميات كبيرة من المنتجات بسعر الجملة.
إدارة الجمعية التنفيذية تقوم بالأخذ بتلك الطرق والتنويع فيها بما يتناسب مع بيئتها التجارية. وهناك خدمات أخرى تقدمها الجمعيات للمجتمعات المحلية، منها: نظام الخدمات الإلكترونية، من خلال توفير خدمات إلكترونية مثل التسوق عبر الإنترنت والدفع الإلكتروني وتوصيل المشتريات لموقع من طلبها. ونظام التمويل للمشاريع المرتبطة، عبر تسهيل حصول الأفراد من رواد الأعمال، على القروض البنكية لتطوير المشاريع المرتبطة بخدمات الجمعية المقدمة للمجتمع.
وأخيرا نظام التكافل الاجتماعي، من خلال تقديم خدمات تكافلية للمجتمع كتقديم المساعدات الاجتماعية ودعم الأسر المحتاجة بتوفير الاحتياجات الضرورية وكذلك الغذائية لهم.
وقد طبقت دول خليجية أنظمة الجمعيات التعاونية، مثل دولة الكويت الشقيقة التي تعد الأولى خليجيًا في تبني وتطبيق نظام الجمعيات، ودعمّت تلك الجمعيات التعاونية كجزء من استراتيجيتها لتعزيز الاقتصاد المحلي وإيجاد الوظائف للمواطنين، وتوفير السلع بأنواعها بأسعار تنافسية وأقل من السوق. وكذلك دولة قطر التي شجّعت على إنشاء الجمعيات التعاونية لدعم المنتج المحلي وتعزيز التكافل الاجتماعي وتوفير الأعمال.
وللجمعيات التعاونية تأثير على المجتمع، ومن ذلك: تعزيز التكافل الاجتماعي ودعم المنتج المحلي، وتقليل الاعتماد على الاستيراد ودعم الاقتصاد المحلي، وخلق فرص عمل محلية وتعزيز التنمية المستدامة، وتحسين مستوى المعيشة للمجتمع من خلال توفير منتجات وخدمات بأسعار مناسبة.
ونرى من هذه الزوايا أعلاه أن مشروع الجمعيات التعاونية الاستهلاكية سيحقق الاكتفاء الذاتي المحلي من خلال دعم المنتج الوطني وتسويقه محليا، وإعادة تدوير رأس المال داخل الولاية، مما يُعزز ثقافة التكاتف الاقتصادي بين المواطنين، وتوظيف واضح لسكان تلك الولايات.
ويمكن تحديد دور الحكومة والقطاع الخاص، كما يلي:
- جهاز الاستثمار العُماني سيوفر التمويل الأساسي والانطلاقة.
- وزارة الإسكان والتخطيط العمراني وبالاتفاق مع البلديات المحلية في الولايات لتقديم المواقع الاستراتيجية.
- الوزارة المعنية تُشرّع آليات وقوانين ونظم الجمعيات التعاونية الحديثة.
- البنوك تُسهم في تمويل أفراد المجتمع (قروض صغيرة للمساهمة في رأس مال الجمعية عند التأسيس).
ومن النتائج الأعمق لمشروع الجمعيات تعزيز الانتماء الاقتصادي؛ إذ يُعيد صياغة العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة، وسيتحول المواطن من كونه مستهلكًا إلى مساهم ومنتج ومشارك في القرار الاقتصادي، مما يُعزز الشعور بالملكية والانتماء ويُقلل من الاتكالية على الدعم الحكومي.
الجمعيات التعاونية ليست نظرية في الفضاء؛ بل مشروع عملي أثبت نجاحه في مجتمعات كثيرة في دول العالم.
والحمد الله، بما تمتلكه عُماننا من مجتمع مترابط ومتعاون، وجهاز استثمار وطني ذي كفاءة، وجغرافيا واسعة تمتد في 63 ولاية قابلة لأن يطبق فيها هذا المشروع بصورة استثنائية.
إن الجمعيات التعاونية الاستهلاكية ليست مجرد متاجر منفردة؛ بل نواة لاقتصاد مجتمعي مستدام، يبني الثروة من داخل المجتمع، ولأجله ويتوسع بها لخدمة مجتمعة.
ويمثل أصحاب السعادة المحافظون ومساعدوهم الولاة، وكذلك الكوادر العُمانية في تلك الولايات الدينمو (المحرك الرئيسي) الذي لا يهدأ لتشجيع المجتمع المحلي والدفع لإنشاء وتطوير هذا الاقتصاد الدائري الاجتماعي وتحقيقه لأهدافه النبيلة.
ليكن لنا هدف استراتيجي يتمثل في بناء الاقتصاد الدائري الاجتماعي؛ حيث من خلاله نحفظ المجتمع والوطن وننطلق إلى آفاق جديدة في عام 2026 فنقطف الثمار الوطنية فيه.
