د. عبدالله باحجاج
هناك من يسعى للتأثير على الوعي الاجتماعي عندما يعتقد أنه بانتهاء سنوات خطة التوازن (2021- 2024)، ستنتهي مشاكلنا الاجتماعية الناجمة عنها، وأن الإنفاق الحكومي- لا نقول سيعود كما كان قبل الخطة- وإنما سينفتح اجتماعيًا واقتصاديًا، وستختفي الآلام والصرخات الاجتماعية.. والفهم الصحيح هو أن خطة التوازن المالي بسنواتها المتوسطة المدى هي فترة تأسيس الاستدامة المالية، من خلال تقليل الإنفاق الحكومي، وإيجاد منظومة جبائية متكاملة، ومن ثم علينا التوقع ماذا سيحدث في آخر سنواتها 2024؟ يُقال إنها السنة التي ستُطبّق فيها ضريبة الدخل على الأفراد، وأن هذه الضريبة ستكون أول ملف يُعرض على أعضاء مجلس الشورى في فترته العاشرة المُقبلة.
ومن هذا المنطلق أخذنا زمام المبادرة لمناقشة معالي الدكتور هلال بن علي السبتي وزير الصحة في حوار ضم مجموعة من الزملاء من الجنسين في أحد مقاهي شاطئ الدهاريز الواقع على المحيط الهندي، وقد كنت أتوقع أن تكون النقاشات ساخنة بسبب طبيعة القضايا الصحية في محافظة ظفار، وسيكولوجية المكان التاريخية والمعاصرة؛ فالكثير من المواطنين- إن لم يكن جميعهم- يرتبطون بالمحيط الهندي بذكرى حزينة؛ سواءً من حيث فقدان قريب لهم عندما كان هذا المحيط وسيلةً لهروب أبناء ظفار إلى دول الخليج بسبب الفقر والقهر في ستينيات القرن الماضي، أو واقعة الغريقة، كما إن المحيط أصبح موسومًا بمنطقة الأنواء المناخية.
غير أن النقاشات لم تتأثر بتلكم العوامل، فقد كانت ناعمة في طرحها رغم قوة مضامينها، والسبب يرجع إلى شخصية معاليه الهادئة وصراحته، ورسالته الوطنية التي كشف عنها في مقدمة حديثه، وهي السعي إلى إيصال الخدمة الصحية لكل مواطن، موضحًا ومُعددًا بعض الإنجازات التي تحققت خلال فترة توليه الوزارة. ولعلمي بصعوبة تحقيق ذلك في حقبة التوازن المالي التي تعني أن تكون المصروفات متوازنة مع الإيرادات، وهي كما ذكرنا سابقًا مُستدامة، لن تنتهي بانتهاء سنواتها؛ فكيف سيوفر معاليه الأموال اللازمة لكسر احتكارية مسقط للخدمات الصحية المتقدمة. بمعنى آخر: كيف ستضمن وزارة الصحة التوازن المالي بين مصروفاتها وإيراداتها دون إرهاق المواطن؟ علمًا بأن مصروفاتها متنامية ومتعاظمة، وهي أكثر وزارة خدمية لكل المواطنين؟ وإذا لم يستمر ضخ الأموال الكافية من وزارة المالية لوزارة الصحة، فإنَّ خدمات هذه الأخيرة ستدخل حقبة تقليل الإنفاق، ومن ثمّ ستسعى إلى إرهاق كاهل المواطن بالرسوم مثلًا، أو قد يحدث نقص في الخدمات، فكيف سيتمكن معاليه من إيصال الخدمة إلى المواطن؟
كلمّا نتعمق مع معاليه في النقاشات، نستشف من أحاديثه هواجس التمويل المالي دون التصريح بها؛ فعندما ينفي معاليه أن تكون رسوم الخدمات الصحية الصادرة مؤخرًا بمثابة إيرادات إضافية للوزارة، رغم أنها تحمل في طياتها هذا الفهم إن لم يكن الآن، فلربما مستقبلًا، وهي كذلك الآن على المقيمين أو الوافدين، فإنَّ الاستدلال الذي نقدمه هنا، رفع رسوم غسيل الكلى من 40 إلى 95 ريالًا في المرة الواحدة، علمًا بأنَّ الحاجة للغسيل قد تكون 3 مرات في الأسبوع، وقد زُرنا قسم الكلى في مستشفى السلطان قابوس بصلالة ووقفنا على الأبعاد السيكولوجية لهذه الزيادة في الرسوم، وتأثيراتها المالية على المرضى وأسرهم. والاستدلال الآخر يتمثل في اللجوء إلى الوقف الصحي، الذي أوضح معاليه في رده على تساؤلنا بشأنه، أننا سنسمع قريبًا أنباءً عنه، وهذا الوقف سيكون من بين أهم الإيرادات لوزارة الصحة بعد الإيرادات الحكومية.
نخشى مستقبلًا أن يكون الوقف حُجة لمزيد من تقليل الإنفاق الحكومي على الخدمات الصحية، أو أن يكون الوقف بديلًا عن فرض رسوم أو ضريبة على الخدمات الصحية، ولن يكون الوقف ناجحًا إلّا إذا ما تم تدويره داخل الحيِّز الترابي له؛ فهناك ذهنية اجتماعية صلبة حول هذه القضية. هذا يعني أنه ينبغي أن تكون لكل محافظة إيراداتها الإضافية المُستقلة دون أن ينتقص من الإنفاق الحكومي، وإنما يكون داعمًا له في إحداث الفارق، فلن يكون مقبولًا أن ترفع مالية الدولة دعمها، أو تقلله مُجددًا؛ فالخدمات- بما فيها الصحية- من بين الواجبات الأساسية على عاتق الحكومة، وهي في المقابل من الحقوق الأساسية للمواطنين، ومن ثم ينبغي أن يحكمها مبدأ المجانية؛ أي دون ضرائب أو رسوم، وإذا كان لا بُد منها، فهي من أجل ترشيد الاستخدام وعقلنته لا لإرهاق كاهل المواطنين.
لدى بلادنا موارد سيادية عديدة قديمة/ جديدة؛ كالنفط والغاز في ظل ارتفاع أسعارهما الآن، وكذلك العوائد المالية الكبيرة للاستثمارات العُمانية في الداخل والخارج.. ومستقبلًا الاقتصاد الأخضر التي ستتحول بلادنا من خلاله إلى مركز عالمي لتصدير الطاقة الخضراء، وهي تستفرد بالإجماع العالمي؛ كونها دولة مستقرة سياسيًا واجتماعيًا، وثابتة في مواقفها الإقليمية والدولية، وجيوسياسية موانيها المُطلة على بحار مفتوحة عديدة، وبعيدة عن مناطق التوترات والنزاعات؛ لذلك فهي منطقة جذب في ذاتها وفي مقوماتها المتعددة، فلا قلقَ على قضية السيولة المالية، ولا نصغي لكل نصائح صندوق النقد الدولي، ولا نُساير الدول الأخرى في رهاناتها على الضرائب والرسوم؛ فخصوصية مجتمعنا العُماني وعلاقته التاريخية بالأرض ينبغي أن تُؤخذ بعين الاعتبار في رسم السياسات وصياغة القوانين.
وبالتالي.. فإنَّ تأمين الحقوق الأساسية للمواطنين وعلى رأسها الحق في الصحة، ينبغي أن يتوفر له التمويل اللازم والكافي من خزينة الدولة، وأن لا يكون الأفراد أو الجماعات المعنوية والطبيعية بديلًا عن الحكومة أو منافسًا لها في تأمين الحقوق الاجتماعية؛ فالحكومة مهما كانت توجهاتها الفكرية الجديدة، عليها الحرص على استمراريتها في إدارة البوصلة الاجتماعية بذكاء؛ فالتعويل على المصادر البديلة كالضرائب والرسوم والوقف الصحي، سينشأ عنه كبرى التساؤلات الاجتماعية، وهي: أين تُنفق ثروات البلاد؟
وخلال لقاء بعض الكتاب والمفكرين مع معالي وزير الصحة، زف معاليه خبرًا سارًا كان ينتظره مجتمعنا المحلي منذ عدة سنوات، وهو إقامة مركز لعلاج الإدمان في ظفار، وهذا من بين أهم المطالب الاجتماعية المُستعجلة؛ فمجتمعنا المحلي يعاني الكثير من أبنائه من تعاطي المخدرات، وهي منتشرة حتى بين بعض الأطفال والشباب، في ظاهرة مُتصاعدة، ولا تعرف الأسر كيف تتعامل مع المدمن، وقد نزلت دموع الكثير من الأمهات أمامنا وعبر الاتصال بنا، تتساءل كيف أعالج ابني المدمن؟! فشكرًا معاليه على هذه البشرى التي نزفها للمجتمع، ونُطالب معاليه بأن يرى هذا المركز النور عاجلًا وليس آجلًا..
نسأل االله أن يكون في عون معاليه في حقبة التوازن المالي التي ستظل باقية رغم انتهاء كل مبرراتها الموضوعية، وأشد ما فيها نهجها المؤطر الذي لا يعتد بانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية، وإنما يسوده الحصرية المالية.