د. عبدالله باحجاج
أفرزت مسيرة انتخاب أعضاء مجلس الشورى والمجالس البلدية حتى الآن مُمارسات اجتماعية مُختلفة، بعضها تتم الإشادة بها على اعتبار أنَّها نتاج وعي نخب صنعت مُمارسات ديمقراطية لها انعكاسات إيجابية على الممارسات الوطنية داخل مجلس الشورى والمجالس البلدية. ومهما تباينت هذه المُمارسات إلّا أنَّه يغلب عليها التطور والتأثير الإيجابي من بعضها البعض؛ مما يعطيها صفة الديناميكية والمرونة والتنافسية الوطنية، وكلها تستوعبها الحياة الدستورية، وتطوراتها المستقبلية، ومعظمها ينصب في روح جوهر الغايات السياسية والقانونية من تبني البلاد نظام الشورى المؤسساتي، وعلى وجه الخصوص إشراك المُواطنين في العملية الانتخابية ترشيحًا وترشُّحًا.
ولا يُمكن أن تكون هناك انتخابات دون تكتلات، ولا يمكن أن تكون هناك ممارسات ديمقراطية نخبوية- أي داخل مجلس الشورى أو المجالس البلدية- دون أن تكون هناك ممارسات ديموقراطية شعبية ناضجة، ومن هنا تأتي أهمية الممارسات الاجتماعية الشعبية التي تُمثِّلها التكتلات في مختلف ولايات السلطنة، وبقدر ما يكون فيما بينها من تنافسٍ شريفٍ، بقدر ما يتم الدفع بكفاءات إلى مجلس الشورى والمجالس البلدية. والدليل أننا لو بحثنا في منتوجات التكتلات التي تبنَّت معايير الكفاءة والنزاهة وتكافؤ الفرص، سنجد أنَّ مؤسسات الدولة استفادت من أغلبها، إن لم يكن كلها، عبر تعيينها في مناصب وزارية وعُليا بالبلاد، وبعضهم ما زال على رأس عمله حتى الآن.
ولو بحثنا في نتائجها على صعيد الممارسات الاجتماعية، سنجد أنها قد طوَّرت من آلياتها، وأصبحتْ تتبنى الكثير من معاييرها، لكن في إطار تدوير الفرص بمفاهيمها الخاصة، وأهم ما يُميِّزها حاليًا تقديمها كفاءات والدفع بها للاستحقاقات الانتخابية، وكذلك قدرتها على التعبئة المجتمعية لترجيح خياراتها، ويظل الحسم لقناعات الناخبين؛ سواءً كان وراؤها التزامات لهذه التجمعات أو قناعات ذاتية.
لقد كان من المقرر أن يكون هذا المقال عن دور النخب العُمانية وتأثيرها في تطوير المسار الديمقراطي في بلادنا، ومستقبل هذا التأثير، إلّا أننا ارتأينا أن نخصصه حول المادة (56) من قانون انتخابات مجلس الشورى الجديد؛ إذ توقفتُ كثيرًا عندها؛ فهي بالنسبة لي أراها مُربكة للممارسات الاجتماعية الشعبية، وذلك لما فيها من حاملات للتأويل والتفسير معًا؛ ممَّا يُحتِّم توضيحات عاجلة، خاصةً وأن انتخابات الفترة العاشرة لمجلس الشورى مُقررة في أكتوبر المقبل، ولو كانت هناك محكمة أو لجنة قضائية دستورية لمواءمة التشريعات والقوانين مع النظام الأساسي للدولة؛ لما اكتشفنا هذه الإشكالية المُقلقة لنا.
المادة (56) تتضمن فرض عقوبات على ما قد يكون مُمارسات اجتماعية وقت الاستحقاقات الانتخابية، وكل من لديه نية التأويل والتفسير؛ فالمادة قد تُسقطها على الممارسات الاجتماعية وقت الاستحقاقات الانتخابية، رغم براءتها من استهدافاتها، ورغم أن غرضها مختلف تمامًا- شكلًا وجوهرًا- عن الغرض الذي تحاربه المادة بقوة العقوبات الردعية؛ إذ تنص المادة على المُعاقبة بالسجن مدة لا تقل عن 6 أشهر، ولا تزيد على 3 أشهر، وبغرامة لا تقل عن 1000 ريال، ولا تزيد عن 3000 ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب عمدًا مجموعة أفعال، ونخص بالذكر: "كل من دعا أو حضر تجمعًا في مكان عام أو خاص بغرض التصويت. ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من سهل أو حرض أو توسط في ذلك".
صحيحٌ أنه لا غرضَ للتصويت وفق منطوق المادة سالفة الذكر، فيما تقوم به التجمّعات يوم الانتخابات؛ فلجانها تقوم في هذا اليوم بالحث على ممارسة حق التصويت، لضمان ارتفاع نسب الإقبال، وتعزيز التنافسية الشريفة؛ بمعنى أن لجانها لا تستدعي الناخبين من أجل التصويت أو مساعدتها عليه، لأن قناعات الناخبين تظل حرة، ولا يعلم بخياراتها أحدٌ، ورغم ذلك تكون اتجاهاتها واضحة مُسبقًا، وذلك من خلال حملات الدعاية واللقاءات الانتخابية بين المرشحين والناخبين، وهي إجراءات قانونية؛ إذ لا تنعقد هذه اللقاءات إلّا بعد إجازتها من وزارة الداخلية.
ما تطرحه المادة (56) من إشكاليات مُقلقة ظهرت صبيحة انتخابات المجالس البلدية الأخيرة، وذلك عندما أصدرت وزارة الداخلية تنويهًا حذرت فيه من التجمع في الأماكن العامة والخاص بغرض التصويت، واعتبرت ذلك مُخالفًا لأنظمة انتخابات المجالس البلدية بعد تبني نظام التصويت الإلكتروني، وهدفها في ذلك بالتأكيد سامٍ، ويتمثل في قطع الطريق على من يريدون شراء الأصوات في مثل هذه التجمعات. أتذكرُ أن هذا البيان قد أحدث ارتباكًا عند التجمعات في ظفار؛ مما حتَّم إجراء اتصالات عاجلة مع مسؤول رفيع المستوى في وزارة الداخلية، وأفاد قائلًا إن هذا البيان لا يتعلق بالتجمعات في محافظة ظفار، وإنما هو وسيلة استباقية للحيلولة دون التفكير في استغلال التصويت الإلكتروني؛ فالتصويت الإلكتروني قد يُسهِّل شراء الأصوات، ولذلك لجأت وزارة الداخلية صبيحة الانتخابات لإصدار ذلك البيان.
إذن.. الغاية من المادة (56) ضمان نزاهة العملية الانتخابية، ومن هنا تكون العبرة بنتائج الأفعال، فإذا كانت التجمعات العامة أو الخاصة بغرض التصويت، فهي مُجرَّمة وبتلكم العقوبات المشددة، وبالتالي فإن الممارسات الاجتماعية للتجمعات تظل في منأى عن المادة (56)، إلّا إذا دخلت نفسها في الأفعال المجرمة بمنطوق تلك المادة. ورغم ذلك نخشى أن يأتي من يُدخلها في تفسيرات أو تأويلات لا تتحملها الممارسات الاجتماعية، ومن هنا يستلزم الأمر توضيحًا قانونيًا صريحًا للمادة قبل الاستحقاقات الانتخابية.
في حين أن المادة (57) من نفس القانون- مثلًا- ورغم أنها عددت الأفعال المُجرّمة، إلّا أن مضامينها غير قابلة للتأويل أو التفسير؛ فهي تعاقب بالسجن مدة لا تقل عن سنة واحدة، ولا تزيد على 3 سنوات، وبغرامة لا تقل عن 3 ألاف ريال، ولا تزيد عن 10 آلاف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب "عمدًا" أفعال حددتها المادة، لكن نختار منها: - شراء أصوات الناخبين أو نشر أو إسناد واقعة غير صحيحة لأحد المرشحين بقصد التأثير على نتيجة الانتخاب. - التأثير على إرادة الناخب بالإكراه أو التهديد بالتصويت.
لو أنَّ هذه المادة لم تحدد أدوات التأثير على إرادة الناخبين لاستوى التأثير السلبي والإيجابي معًا، وإنما حددته في الإكراه والتهديد، أي التأثير السلبي، أما التأثير الإيجابي فهو غير مُجرّم قانونيًا، ومن حق كل مُرشح أن يُؤثر على الناخبين من خلال حملاته الانتخابية وتسويقها للرأي العام، ولن يأتي من يُجرِّمها استنادًا لهذه المادة، على عكس تجمُّع لجان التجمعات يوم الانتخابات؛ إذ إنَّ العبرة هنا في غرضها وليس حدثها.. لذلك نُطالب بالتوضيح العاجل؛ لأنَّ التجمعات أصبحت ظاهرة الآن في مُعظم- إن لم يكن كل- ولايات البلاد.