د. عبدالله باحجاج
مع كل انفلات أخلاقي تظهرُ أصوات تصف ذلك بضريبة السياحة، وتُحاججنا براديكالية العبارة التالية: "إذا ما أردتم سياحةً ذات عائد مالي للدولة والمُجتمع؛ فعليكم أن تقبلوا بهذه الضريبة"، وهذه الأصوات القديمة الجديدة، قد تجددت الأسبوع الماضي بُعيد احتفالية غنائية راقصة في أحد المراكز التجارية في صلالة، أثارت جدلًا اجتماعيًا بعد تسريب مقطع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
معروفٌ أنَّ هذا المركز قد أصبح يجذب الأسر بمختلف أعمارها؛ كونها تجد فيه متنفسًا لاحتوائه، ما يُشبع رغبات الأسر من ألعاب للأطفال ومشتريات أساسية وكمالية، وأصبح الكثير من أولياء الأمور يضعون أسرهم فيه لاطمئنانهم على أنه محتوى للأسر.. فلماذا أقيمت فيه فعالية الرقص والغناء؟ والمثير اختيار مدخل إحدى بواباته الرئيسية مكانًا للفعالية.
حسب المعلومات التي وصلتني أثناء زيارتي للموقع، فقد كانت فعالية خريفية سنوية تُخصص في الموقع لمسابقات الأطفال، فلماذا خرجت هذا الموسم عن مسارها؟ قد يُقال لجس النبض في مدى التسليم بها، وإذا كان، فإنَّ التداعيات الميدانية الناجمة عنها هي الرد، فقد قذفت مجموعة من النساء الكراسي على الراقصين؛ مما أعطى الحدث أبعادا مجتمعية شكلت رأيًا عامًا، وحديث مجالس مجتمعنا المحلي حتى الآن، وهذا تطور نرى فيه أنه يؤسس قوة ردع معنوية مجتمعية، وضمانة عدم التكرار، لذلك سيُحسب له الحسابات العقلانية مستقبلًا، ليس في الموقع نفسه؛ بل كل المواقع، وهنا رهان يجعلنا نطمئن على الثوابت الاجتماعية في حقبة طغيان المال وجنونه.
لا قلق على الثوابت ما دام لدينا رأي عام قوي؛ حيث سيشكل كبرى الضمانات المستدامة لثوابت الدولة الفكرية والأيديولوجية والسياسية، وقد وجدناه- أي الرأي العام- في قضية الغناء والرقص سالفة الذكر يأخذ الصفة الوطنية، فقد تفاعل معها الكثير من المغردين المشهورين في التواصل الاجتماعي من مختلف أنحاء البلاد، فقد استنكروها وعزاها البعض منهم إلى وجود نساء أجنبيات.
وهنا لا ننفي البعد النسائي المحلي في قضية حفلة الغناء والرقص، لكنها لا تُعمم، ولا تُشكِّل ظاهرة، وهذا لا يعني أننا ينبغي أن نطمئن؛ فهناك تحولات غير منضبطة ومفتوحة، وحلها يكون برفع التوعية الأسرية ووضع تشريعات محلية تعزز من النظام العام الذي يقوم عليه كيان المجتمع وقيمه الأخلاقية، وهنا نخاطب مؤسسات وجمعيات المرأة والمجلس البلدي، فالأولى لا تقم بالدور المأمول في تثقيف المرأة لمواجهة تحديات التحولات التي تمس الأسرة، فلابُد من مزيد من التفعيل لأدوار هذه الجمعيات، وأهمية انضمام النساء الواعيات الغيورات لهذه المؤسسات من أجل دعم جهود تعزيز مكانة الأسرة ودورها في التنشئة، واتخاذ مواقف من أي حالة انفلات قيمي أو أخلاقي قبل أن يقع، حتى لا يقع.
نراهن كثيرًا على الفاعلية النسائية داخل جمعيات المرأة، فهن يشكلن نصف المجتمع تقريبًا، وصوتهن حتى الآن يكاد لا نسمعه، وإن سمعناه، فيكون إما في فعاليات يغلب عليها الطابع الدعائي للمؤسسة، أو في توفير الجانب الترفيهي لحفل اختتام المناسبات الحكومية والرسمية.
دور جمعيات المرأة الآن مُلح أكثر من أي وقت سابق؛ فالمرأة تحتاج لمعرفة كيفية مواجهة التحديات التقنية والفكرية والسلوكية لأبنائها، وكيف تنفق على أولويات الأسرة خاصة لدى ذوي الدخل المحدود؟ معظم النساء داخل كل مجتمع محلي يحتجن الآن لمناقشات وحوارات للتكيف مع التحولات المالية وانفتاح مجتمعاتها من كل الأبواب، فهناك دول وشخصيات غنية ترصد الأموال الضخمة من أجل نشر أفكار سرطانية كالمثلية، وكما أوضح الشيخ المفكر عبدالله الشحري في خطبة الجمعة الماضية، فهناك 27 دولة في العالم تدعم المثلية براديكالية مجنونة، مقابل 69 تجرمها، وهناك 124 دولة تتخذ موقفًا لا يُجرِّم ولا يدعم! وهي تبدو في موقف الداعم؛ لأنها سهلة الاختراق، وستكون تحت ضغوطات نجاح اختراق مجتمعاتها معترفة وداعمة.
من هنا.. لا ينبغي التساهل بالقيم والأخلاق، كما إن الحاجة تدعو الى تقييم وإصلاح كل المسارات قديمها وحديثها؛ لدواعي التحصين وسد منافذ الاختراقات؛ فالإكراهات ليست في المثلية فقط، وإنما هناك الإلحاد والجندرية، والقائمة طويلة. ويمكن للجمعيات أن تتعاون مع المجالس البلدية في حملها على استصدار لوائح وأوامر محلية للحفاظ على الهوية المحلية في ثوابتها الجوهرية والشكلية، وطبيعة مرحلتنا الراهنة وآفاقها المُستقبلية تكمُن في العمل داخل المؤسسات المُستقلة والمشتركة، وهي الانجع والأكثر تأثيرًا من العمل الفردي؛ بل يدخل من منظور الشراكة المؤسساتية، ومن أهم إيجابيات هذه الشراكة أنها تحول دون احتكام المجتمعات إلى الحلول العشوائية الميدانية.
والتساؤل أخيرًا: هل يمكن صناعة سياحة عائلية دون أن تكون على حساب القيم والأخلاق المجتمعية؟ هنا ينبغي أن تتخصص بلادنا في هذا النوع من السياحة، ولديها كل المقومات في التفرد فيها إقليميًا وعالميًا، وقد أشرنا في مقال سابق إلى تعاظم السياحة العائلية ونصيبها المتزايد من السياحة العامة، ولو ركزنا على السياحة الخليجية فذلك سيكون طموحًا واعدًا ومُستدامًا من حيث الإقبال وعائده المالي، ومن حيث قبوله الاجتماعي؛ فسياح دول مجلس التعاون الخليجي- وفق إحصائية منشورة- يسهمون بما يقدر بنحو 31% من حجم الإنفاق الإجمالي على الأنشطة السياحية، رغم نسبة الكثافة السكانية المنخفضة في المنطقة، والتي تشكل فقط 3% من المسلمين في العالم، وتعد السعودية أيضًا واحدة من أهم مصادر السياحة العائلية، التي مثلت 17.1 مليار دولار أمريكي من حجم الإنفاق، وذلك وفقًا لإحصائية قديمة نسبيًا، في حين أنفقت الإمارات 10.1 مليار دولار أمريكي، مقابل 7.4 مليار دولار أمريكي للمسافرين من الكويت.
مما تقدم.. يمكن لبلادنا صناعة سياحة عائلية تخصصية، مع الحفاظ على منظومة قيمها وأخلاقها، سياحة مُنتجة للمال وفرص العمل، ومن خلالها ستصنع الفارق الجوهري عن غيرها، وذلك لتميزها في حاضنات السياحة العائلية من مجتمع متعايش ومسالم، واستقرار سياسي وأمني.. والملوِّحون بالضريبة الأخلاقية والقيمية، يعكسون خلفياتهم الثقافية والفكرية، وليس تعبيرًا عن حرصهم على العائد المالي السياحي، ولن ننصت إليهم، ولا نريد أن يكون لهم دور في صناعة السياحة في بلادنا.