التعليم.. سبيل التنمية المستدامة

 

منى بنت سالم الغزالي **

monaalghazali19@hotmail.com

 

شهد الفكر التنموي العديد من المُتغيرات التي حدثت في أواخر القرن العشرين، وانتقلت فيه أفكار التنمية من الطابع الكلاسيكي إلى المتطور الحديث الذي يدور حول الإنسان حيث ولد مصطلح التنمية المُستدامة وبرز كمعلم مهم في مسيرة التطور التنموي.

وجاءت إضافة المستدامة إلى التنمية لتناسب البُعد المستقبلي للأجيال القادمة، ومنه طبقت بعض الدول نماذج للتنمية المُستدامة تمثلت في ظهور بعض المناشط والخبرات لتحقيق نتائج ملموسة لأهدافها غير أنَّ هذه النتائج لم تتحقق بفعالية مرجوة! وذلك لجملة من الأسباب أهمها أنها لم تولِ قطاع التعليم أهمية قصوى في تحقيق أهداف الاستدامة. وبالفعل تم إدراك هذه الغفوة بعقد مؤتمر في جوهانسبيرج جنوب أفريقيا كانت الحصيلة مصطلح جديد وهو التعليم من أجل التنمية المستدامة، أي ''التعليم الذي يحث على تغيير المعرفة والمهارات والقيم والسلوكيات ليتيح للجميع مجتمعاً أكثر عدلًا ومساواة''، وهو ما يمنح ويمكّن الدارسين بمختلف الأعمار لمواجهة التحديات المختلفة من خلال تزويدهم بالمعارف والمهارات والقيم والسلوكيات اللازمة. إضافة إلى أنها وضعت خطة يتم من خلالها متابعة الدول والتنسيق والترويج معها من أجل ضمان تحقيق أهداف التنمية المستدامة عبر إعادة النظر في فلسفة التعليم والأنشطة الإصلاحية المرفقة للمعلم إلى جانب الإعدادات المهنية والتدريبية عن طريق قطاع التربية والتعليم بمتابعة وتنظيم من منظمة اليونسكو. وفي عام 2015 وقعت الدول المرتبطة بالأمم المتحدة على أهداف التنمية المستدامة في سبيل تحقيق الاستدامة بكافة مكوناتها.

إن هذه الرحلة الموجزة لمصطلح التنمية المستدامة وازدهاره كشفت لنا الأهمية العظيمة التي يجب أن يحظى بها قطاع التعليم كونه السبب الرئيسي في حل العديد من المشكلات ذات الصلة، وإصلاحه بالشكل السليم سيرفع من كفاءة قطاعات وقوى عدة أهمها القوة الاقتصادية، ولأنَّ التعليم والاقتصاد وجهان لعملة واحدة ولا ينفصلان تلجأ عادة بعض الدول إلى إصلاح المنظومة التعليمية إذا وجدت خللا اقتصاديا ما. فالتعليم يحظى بالصدارة والأولوية في أي عمل تنموي وهو قاعدة الارتكاز نحو الانطلاقة.

وبالرغم من أن مفهوم التنمية المستدامة قد شهد قبولا واسعًا إلا أن البعض لم ينجح في تبني خطوات جادة حتى الآن! فلا يتمثل ذلك بمجرد برامج وخطط تكتب بل ينبغي أن يوضع الإنسان في صلب العمليات التنموية عبر تشييد عقله أولًا ثم المضي به نحو البناء.

ومما لا شك فيه أن التعليم من أجل التنمية المستدامة أوسع من مجرد معارف ومعلومات، فلا يكون ذلك في تزويد المعلومات دون أن يكون لها أثر إيجابي في ذات المتعلم وسلوكه، ومنها إعداده كمواطن يتحمل المسؤولية يقوم بواجباته ويتمتع بحقوقه ويساعد في الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة. فالدور الحقيقي للتعليم يكمن في صياغة القيم والمفاهيم وتنمية المهارات التي من شأنها أن تستخدم في رفع الممارسات القويمة الإيجابية والحد من الممارسات السلبية، لذلك فإنَّ تعليم الاستدامة ليس بالأمر السهل، فهو لا يعني أن تستمر الأوضاع والأنظمة كما هي بل بالقدرة والمرونة في التغيير المستمر الذي يتماشى مع المتغيرات طبقًا لنوعية الاحتياجات وطبيعة التحديات.

وفي إطار ذلك، هنالك العديد من التجارب الملهمة والإسهامات لبعض الدول التي تستحق تسليط الضوء عليها لعلها تكون بمثابة بارقة أمل ونافذة للمستقبل، ومنها تجربة النرويج التي جمعت وزارة البيئة مع وزارة التعليم وأشركت الجامعات والكليات والمدارس ووضعت خطة وطنية لتضمين قيم التنمية المستدامة بمشاركة من رجال الأعمال والقطاع الخاص لدعم هذه المبادرة بخطط وطنية مدروسة. كما يوجد مثال رائع للمدارس الخضراء التي طبقت في عدة دول منها الصين ودبي و كوريا الجنوبية وإندونيسا، ومن جانبه أخذ الخيال البيئي (أدب البيئة) نصيبه في اهتمام الأدباء والروائيين وظهرت عدة روايات اهتمت بقضايا البيئة من زوايا مختلفة، والتركيز على جانب المعارف والمهارات وتعزيز القيم وتفعيل المناشط والرحلات الإثرائية وغيرها من الوسائل التي تعزز هذا الجانب.

إن قيم التنمية المستدامة لا تقف فقط عند معرفتها ومعرفة المصطلحات الخاصة بها وإنما القضية أشمل بما فيها من تعزيز وتوطين وتسلح بمهارات على نحو مستدام. كما أنها لا تقف عند مستوى مُعين بل هي مستمرة مدى الحياة وقائمة على جهود الجميع من شركات ومؤسسات وعلاقات في إطار تعزيزها وتطويرها. بمعنى آخر لابد من أن تكون خاصية التشاركية حاضرة من قبل كافة القطاعات الحكومية والخاصة، وإذا أردنا تحقيق نهضة تنمية مستدامة فعلًا على الوجه المطلوب لابد من قيام كل قطاع بمهامه على الوجه الصحيح.

وبالنظر إلى الأمر على الصعيد المحلي، شهد قطاع التعليم بالسلطنة حضورا وجهودا في تنمية القيم المستدامة من خلال تضمين محتوى دراسي خاص بقضايا ومعارف التنمية المستدامة في مقررات التعليم الأساسي. ولكن هذه الجهود لن تتكلل بالنجاح ما لم ندعّم ونفعّل الأداة الحقيقية في هذا المجال الحيوي. فإذا أردنا تحقيق تنمية شاملة في التعليم والمجتمعات ككل فلنصنع معلمًا مبدعًا ومميزًا، إذ لا يمكن أن تتحقق التنمية ما لم يكن هناك حضور وبصمة للمعلم، فكل الأزمات والمشكلات التي حدثت في المجتمعات بمختلف أشكالها الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية كانت شاهدة على ذلك، كما يهم في ذلك تأسيس ذات المعلم بالشكل الذي يخدم عمله وأفراده ومجتمعه، ويوجد العديد من الدول حول العالم التي أثبتت ذلك وجعلت للمعلم الأولوية في برامج الإصلاح ونجحت وتبوأت مكانتها المرموقة، ولأن المعلم هو رأس المال البشري والرافعة للتنمية المستدامة ينبغي إعطاؤه دوره ومكانه الحقيقي والبعد عن كل ما يثقله من أعباء إدارية وفنية ونماذج بيروقراطية تعطل سير عمله ودوره الأساسي، بدلًا من نقل المعارف وتنمية القيم الأساسية. فالناظر لحال المعلم اليوم يستطيع أن يرى بوضوح باله المنشغل بغير دوره التنموي وبالقضايا التي تأخذ من وقته الكثير بدلًا من دوره الحقيقي.

ستبقى عجلة التنمية عاجزة ما لم نقدم للمعلم دوره الصحيح في التغيير والإصلاح. والأهم في ذلك أننا بحاجة الى إعادة النظر في جوانب فلسفة التعليم وأهدافها ومدى ارتباطها بمجالات وقضايا التنمية الى جانب التطوير في سياسات التعليم التي ستساهم في رفع كفاءة المعلم وإعداده بالشكل الأمثل الذي يخدم صالح التنمية المستدامة. وكلما منحنا المعلم صلاحيات أكبر للتعبير والتغيير الثقافي الإيجابي للمجتمع وتوطين قيم المواطنة والتنمية المستدامة انعكس ذلك إيجابياً على المجتمع واكتسب تنمية شاملة بقيم مستدامة بعونِ لله.

الطريق ما زال طويلاً للوصول للنتائج المرضية في هذا المجال على وجه الخصوص، ولأن الهدف الأسمى هو ضمان البقاء على هذه الحياة والعيش فيها على نحو مستدام يتطلب ذلك تغيير طريقة التفكير كأفراد أو مجتمعات ويتعين على قطاع التعليم أن يشهد تغيرا وتحولا واسعا لإرساء دعائم آمنة ومستدامة تضمن بقاء وازدهار الأجيال الحالية والقادمة.

وسيبقى التعليم هو أقوى إداة لتحقيق الاستدامة المُثلى وتحسين جودة الحياة، وبدونه لا سبيل للنماء والتقدم.

** كاتبة وباحثة تربوية

تعليق عبر الفيس بوك