د. عبدالله باحجاج
التقيتُ بصديقٍ إماراتي له أكثر من سبع سنوات لم يزُر ظفار، لا في الصيف ولا في الشتاء ولا في الربيع "الصرب "، رغم أنه كان من عُشاق فصول ظفار كلها، وكان كثير الترحال إليها، ويعرفها بحرًا وسهلًا وجبلًا ونجدًا وصحراءً.. فلما سألتُه عن سبب غيابه الطويل، أجاب: كنت أبحث عن البديل شرقًا وغربًا، ثم سألته، فهل وجدته؟ توقف قليلًا عن الاسترسال، ثم قال: ما أكثر الأمكنة الجميلة، لكنها بلا روح، هي مجرد جماد كلوحة جميلة تُمتِع الحواس، ولا تنفذ للعواطف والمشاعر، ولن أجدها- أي الروح- إلَّا في ظفار، تدرك قلبيًا منذ الوهلة الأولى التي تطأ الأقدام ترابها الناطق بروحانيات صلاح أهلها وطيبتهم وحبهم للضيوف، مما يمنح السحر لجمال جغرافيتها وطبيعتها في كل الفصول. لكن.. لولا الازدحام!
هنا ينتهي حديث الصديق الإماراتي، فالازدحام المروري هاجس الكل، المواطن والمقيم والزائر والسائح، وهو من كبرى القضايا السياحية المزمنة سنويًا، وقد كشف "خريف 2023" أنها يجب أن تحل سريعًا، ولن يُعذر شخص معنوي أو مؤسسة إذا لم تسارع في حلها خلال مدى زمني قصير؛ فالأعداد السياحية المتزايدة سنويًا قد أصبحت تقضي وقتًا طويلًا على الشوارع بطوابير سياراتها، وظفار منذ بداية أغسطس الحالي غارقة في الازدحام بصورة غير مسبوقة، ويستنفذ من وقت السائح كثيرًا، ويستصعب معها إسعاف حالة صحية طارئة إذا ما أريد نقلها إلى مستشفى السلطان قابوس بصلالة.
وحل قضية الازدحام والاختناقات يحتاج لتفكير من خارج دائرة الفكر الحالية؛ سواءً كانت مركزية أو لا مركزية، بمعنى أن القضية لن تنحل حتى لو تم الإسراع في إقامة نفق دوار أتين، وازدواجية كل من شوارع السلطان تيمور والفاروق وريسوت المغسيل، وكيف لو علمنا أنه لن تُنفَّذ بعض هذه المشاريع بعد الخريف، وإنما بعد أجل زمني متوسط، ونُشدد هنا على التفكير الذي يعالج مشاكل الاختناقات والازدحامات كحزمة واحدة من ما يكشفه الآن "خريف 2023"؛ لأنه يُشخِّص المشاكل، ويُحدِّد حلولها ميدانيًا، لذلك نقترح- بصورة عاجلة- على مكتب محافظ ظفار بصفته يُمثِّل السُلطة اللامركزية الإقليمية، تشكيل لجنة تضم كل الخبرات في مختلف المجالات الفنية والهندسية والفكرية من أبناء المحافظة دون استثناء؛ المتقاعدين من أصحاب الخبرات التراكمية والتخصصات التي لها علاقة بالتنمية الإقليمية، لإعداد خارطة شاملة لحل كل مشاكل الاختناقات والازدحامات المرورية برؤية الحاضر والمستقبل، على أن يبدأ التنفيذ أولًا بتلكم المشاريع الأربعة بُعيْد الخريف فورًا، وكذلك إعداد خارطة مماثلة لتطوير السياحة في ظفار.
وينبغي أن تتوفَّر للخارطتين مواردَ مالية من خزينة الدولة بصورة عاجلة واستثنائية؛ لأن الوضع لا يقبل الاستمرار فيه وفق نسخة 2023؛ إذ لا بُد من تفكيك حدتها عاجلًا، أملًا في أن تظهر نتائجها بصورة ملموسة بدءًا من خريف 2024، وإعادة النظر في منظومة الطرق والشوارع بما فيها المؤدية للمواقع السياحية بحيث يحدث الفارق الإيجابي في الاستمتاع بجماليات وروحانيات الخريف، وهي ومهما كانت ملاحظات الزائرين والسياح على أسعار الشقق والفلل وامتعاضهم من الازدحامات، إلا أنهم يجدون قوة داخلية تقودهم مجددا للسياحة الخريفية.
لن نقلق على الإقبال السياحي لخريف ظفار؛ فمقومات الخريف من رذاذ وضباب ونسمات عليلة وإخضرار، وشعور بالأمن والأمان، والطمأنينة الأسرية على الأطفال، كالتي نعيشها الآن، جاذبة في حد ذاتها، لكن قلقنا على الانطباعات عن التنمية في بلادنا، والتنمية السياحية نموذجًا؛ فتعاظم الاختناقات والازدحامات سنويًا يعطي للمؤسسات اللامركزية مهمة تسيير الأعمال وليس صناعة الأعمال، فلو كانت كذلك من منظور الانطباعات لما استمرت الازدحامات والاختناقات من عقود وحتى الآن.
ينبغي أن تتعدد مهام اللجنة المُقترحة، بحيث تشمل كذلك الإجابة على التساؤل التالي: كيف نجعل السياحة في ظفار سياحة عائلية جاذبة؟ وبالتالي ينبغي أن تُلبي جميع الأذواق التي تُفضِّلها العائلات، ولن يتأتى لنا صناعة هذا النوع من السياحة، إلَّا إذا اعترفنا بأن الفكر والكيانات المعنوية بالسياحة لن تحقق لنا الغايات الكبرى من السياحة في بلادنا إلّا إذا ما أًعيد النظر فيها وفي بنيتها من جهة، وإحداث إصلاحات جذرية حتى لو اقتصرت على مؤسسة واحدة تجنبًا لتداخل الصلاحيات والاختصاصات، وجعلها ضمن المؤسسات الأساسية للنظام اللامركزي. أما مع استمرارية الوضع المؤسساتي والفكري كما هو عليه، فلن نتقدم نحو الخطوات اللازمة التي تجعل من سياحتنا منافسة، وذات إيرادات مالية للمجتمع ولخزينتي الدولة والبلدية.
وتخصص بلادنا في السياحة العائلية كونها تتناغم مع طبيعة المجتمع وثقافته، ويمكن أن تصنع فرص عمل وبالآلاف، وكونها- أي السياحة العائلية- في نمو عالمي بمعدل 4.75% ليصل حجم السوق إلى 180 مليار دولار (وفق إحصائيات 2018)، كما يرتفع الإنفاق العالمي للمسلمين على السياحة العائلية الخارجية بنسبة 7.7% ليصل الى 150 مليار دولار، باستثناء رحلات الحج والعمرة.
فماذا تريد السياحة العائلية؟ قضاء أوقات ممتعة تجمع العائلة "الأب الأم والأبناء" في مكان واحد وأن تكون متوافقة مع خصوصية أعمار الأبناء وثوابت المجتمع.
ذلك أن طبيعة السياح الذين يستهدفون فصل الخريف هم من داخل البلاد ومن الدول الخليجية الشقيقة غالبًا، أي من نفس الخصوصية العمانية، لذلك، فالاستهداف السياحي ومنتوجاته ينبغي أن يُلبي احتياجاتهم ومطالبهم بصورة مباشرة وفق منظورين؛ أولًا: إعادة ثقافة الذروة الخريفية في شهر أغسطس؛ فالخريف يبدأ من يونيو لغاية نهاية سبتمبر، فهذه الثقافة تسبب ضغوطات كبيرة على الخدمات، وتساهم في رفع الأسعار حسب الطلب المتزايد، من هنا، نسمع بعض الأصوات عن الغلاء، ولا ننفي ذلك، لكننا نرجعه الى ثقافة الذروة، وحالة استغلال بعد أن تولى الأجانب/ الوافدين إدارة واستثمار الشقق والعمارات السياحية، وهنا يُناط باللجنة سالف الذكر وضع ضوابط عاجلة.
وثانيًا: جعل ظفار مقصدًا سياحيًا لكل المواسم، فقد أصبحت هناك مهرجات لكل موسم، فبعد الخريف هناك مهرجان الربيع "الصرب محليًا" وعقبها مهرجان صحراء الربع الخالي في الشتاء، ويمكن تعدد المهرجانات وتطويرها إذا ما أردنا صناعة سياحية ذات عائد مالي للدولة والمجتمع- وقد تناولناها في مقالات سابقة- ربما علينا التفكير أخيرًا في إقامة هيئة سياحية تخطيطية لا مركزية في محافظة ظفار تُناط بها صلاحيات وزارة السياحة، بحيث تكون اللجنة المقترحة سالفة الذكر نواتها بعد الانتهاء من مهامها.