إفريقيا مهد الحضارة والثروات ومهوى الأطماع الدولية

محمد بن سالم البطاشي

إن حدثتك عزيزي القارئ عن التاريخ والحضارة والثراء والتنوع الجغرافي الذي يُرافقه تمايز وتنوع في الأفكار والآراء والمعتقدات، فأنا أعني بذلك أفريقيا تلك القارة التي تشغل مساحةً من الكرة الأرضية تقدر بنحو 30 مليونا و750 ألف كيلو متر مربع، ويقطنها نحو مليار و400 مليون نسمة، وبذلك تعد ثاني قارة بعد قارة آسيا من حيث المساحة وعدد السكان، وحجم ناتجها المحلي نحو تريلون ونصف الترليون دولار، ويصل مجموع تجارتها مع العالم نحو 934 مليار دولار، وتكمن داخل هذه المساحة ثروات هائلة ومتنوعة (مائية وزراعية وسمكية ومعدنية وطاقة)، كانت وما زالت تداعب خيال الحالمين والطامعين والغزاة والمُغامرين، وقد تعرضت عبر تاريخها الطويل لغزوات ونكبات لا تُعد ولا تحصى، ربما أشهرها تلك المعروفة بالتدافع على أفريقيا أو السباق نحو أفريقيا منذ القرن التاسع عشر وحتى  يومنا هذا.

وتكتسب القارة أهميتها من كونها تشكل خزان العالم من الموارد الأولية التي يشتد الطلب عليها في ظل التنافس العالمي الشديد بين الدول الكبرى المستهلكة لهذه الموارد وتقلص نسبة الاحتياطيات العالمية منها، ومعدلات الإنتاج المتزايدة عالميا، وهو ما يمثل أحد أهم المحفزات لهذا التدافع الدولي المحموم على القارة الغنية، حيث تمتلك أفريقيا ثلث ثروات العالم المعدنية، و65% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، وتمثل الثروات المعدنية بالإضافة إلى النفط والغاز الجائزة الكبرى في هذا السباق، فعلى سبيل المثال لا الحصر تمتلك قارة أفريقيا نحو 30% من احتياطيات العالم من اليورانيوم وتساهم بنحو 15% من الإنتاج العالمي منه، وتستأثر بنحو 70% من الإنتاج العالمي للذهب، ويكمن في جوفها نحو 40% من احتياطيات العالم من المعدن الأصفر، وبها نحو 90% من احتياطيات البلاتين العالمية وتنتج نحو 75% منه، أما الكوبالت فهي تحوي نحو 30% من احتياطيات العالم، وتعطي نحو 76% من الإنتاج العالمي من هذا المعدن الهام، ويشكل النحاس الأفريقي نحو 40% من احتياطي العالم، ونحو 33% من الإنتاج العالمي، وإذا تذكرت -أيها المتابع الكريم- الألماس وما أدراك ما الألماس فالقارة  تتربع على 95% من احتياطيات العالم من هذا المعدن النفيس، وتساهم  بنحو 50% من الإنتاج العالمي، وتمتلك القارة نحو 15% من احتياطيات العالم من الحديد، وترفد العالم بنحو 9% من الإنتاج  العالمي منه، وتحتوي على نحو 12% من احتياطيات العالم من النفط، ونحو 10% من الاحتياطيات العالمية من الغاز... هذا غيض من فيض  تلك الثروات المعروفة التي تزخر بها هذه القارة البكر وما خفي واستتر عن عمليات البحث والتنقيب ربما يكون أكبر بكثير.

من هنا نستطيع فهم ما يجري في أفريقيا اليوم من أحداث وتحولات استراتيجية، فلا غرابة إن كانت القوى الاستعمارية تتسابق وتتصارع على هذه الكنوز؛ حيث اتضح جليًا قوة هذا التزاحم في أواخر القرن التاسع عشر حين قامت الدول الأوروبية بحملة كبرى، واحتلت مُعظم القارة تعرضت أفريقيا  خلالها لأكبر حملة من النهب المنظم للثروات من قبل المستعمرين الذين ابتدعوا تجارة الرقيق التي قامت عليها الثورة الصناعية في أمريكا وأوروبا، وأجبر السكان على العمل بالسخرة في المناجم والأراضي المملوكة للمستعمرين الذين تعاملوا مع سكان البلاد الأصليين بعنجهية وتعال وعنصرية فجة، واستمر الحال هكذا إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث حصلت الدول الأفريقية على استقلالها تدريجيًا، لكن الاستعمار تركها أكثر القارات فقرا وتخلفا.

وتتكون أفريقيا اليوم من 54 دولة مستقلة تكافح شعوبها من أجل الاستقرار والتنمية  والتطور ونفض غبار وتركة الاستعمار الثقيلة، الذي ربط اقتصاديات وثقافة وفكر مستعمراته باقتصاده وثقافته ولغته وفكره، وجاءت سياسات صندوق النقد الدولي لتزيد الأمور سوءًا وتفاقم الديون الأٌفريقية، وتزيد  نسبة الفقر لتبلغ مستويات مروعة وتتفشى الأمية بين سكانها وتفتك بهم الأمراض والجوائح، وتزداد معاناة الأفارقة، حيث أعداد اللاجئين والهاربين من جحيم بلدانهم تتزاحم على ضفاف البحر المتوسط حتى ضاقت بهم  سفن وقوارب الموت وأضحت جثثهم تطفو فوق المياه الهائجة، في تراجيديا سوداء من قصص ومآس تجعل الولدان شيبا، لشباب في ربيع أعمارهم غامروا بأنفسهم وباعوا كل ما لديهم من أجل لقمة عيش لا تكاد تسد رمقا، ولربما يدرك الكثير من سكان أفريقيا أن بلدانهم تقبع فوق ثروات وكنوز هائلة ولكنهم لا يجدون أثرها في حياتهم، مما يورث نفوسهم مزيدا من الحسرة والغصة والحنق على من أحلوهم دار البوار، وسلبوهم مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، ليتحول  ذلك الشعور إلى ظاهرة عامة لدى الأفارقة الذين ضاقوا ذرعا بممارسات الشركات الاحتكارية في بلادهم، وللشروط المجحفة للاتفاقيات الاقتصادية التي عقدها الاستعمار مع الدول المستقلة.

ومع بروز لاعبين جُدد على الساحة الدولية بدأ الوضع يتغير لصالح الدول الأفريقية التي وجدت عروضًا تتصف بالإنصاف أكثر من ذي قبل مع شركاء آخرين يحاولون ترسيخ أقدامهم في القارة السمراء تدفعهم الحاجة الماسة إلى الموارد الأولية المتوفرة بكثرة هنا، وقدمت كل من الصين وروسيا ودول أخرى عروضا تتسم بالمشاركة في المنافع وتقاسمها مع أصحاب الثروة، إضافة إلى النهوض بالبنية الأساسية كبناء الطرق والمطارات والموانئ والسكك الحديدية، وبناء المدارس والجامعات ومعاهد التدريب المهني ونقل التكنولوجيا، وبناء المستشفيات في تعبير عن نوايا التعاون والصداقة مع الشعوب الأفريقية؛ الأمر الذي لاقى ترحيبًا حارًا على المستويات الرسمية والشعبية والنخب المثقفة، مما وسع دائرة النفوذ للاعبين الجدد، الذي يبدو أنه يأتي على حساب النفوذ الأورو أمريكي، الذي أذنت شمسه  بالمغيب، وما الأحداث الأخيرة التي حدثت في دول غرب أفريقيا إلا مثالًا على هذا التحول الإستراتيجي في التوجه الأفريقي.