انتصار الدم على السيف

جابر حسين العماني

jaber.alomani14@gmail.com

قضية استثنائية وعالمية خلَّدها التأريخ، لم تبرد حرارتها عبر الأزمنة والدهور، ولم يشهد التاريخ الإنساني بكل أبعاده وأدواره ومواقفه فاجعة أعظم منها، استلهم منها المنصفون في العالم كيف يكون انتصار الحق على الباطل؟ إنها فاجعة كربلاء التي انتهت بقتل ريحانة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام في العام 61 للهجرة.

حوالي 1400 عام تفصلنا عن تلك الفاجعة الحزينة التي بكتها السماء دمًا، إلا أنَّ حرارتها لا تزال إلى يومنا هذا حية ومتوهجة في ضمائر الأحرار والمنصفين من أبناء العالم، كما قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم: "إِنَّ لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ علیه السلام حَرَارَةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَبْرُدُ أَبَداً"، وقال غاندي وهو السياسي البارز والزعيم الروحي للهند: "تعلمت من الحسين كيف أكون مظلومًا فأنتصر".

لقد خاض الإمام الحسين عليه السلام معركته الحاسمة في شهر محرم الحرام ضد الطغاة في زمانه، بهدف الإصلاح في أمة جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهو القائل عند خروجه في وجه الظلم والظالمين: "أَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلاَ بَطِراً، وَلاَ مُفْسِداً وَلاَ ظَالِماً، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ اَلْإِصْلاَحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ اَلْمُنْكَرِ، وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ".

وكانت المعركة الوحيدة الخاسر فيها بحسب قوانين الحروب منتصرا شامخا عزيزا، وكانت المعركة التي خاضها الحسين عليه السلام ضد الباطل، محلا للانتصار حيث انتصر فيها الدم على السيف.

لقد تركت واقعة الطف الأليمة للأمة العربية والإسلامية، بل وللعالم الإنساني بأسره من مشرقه إلى مغربه، آثارا عظيمة، فهي ثورة خالدة ليست كبقية الثورات المعروفة، هي ثورة إصلاحية تمكن فيها سيد الشهداء الحسين بن علي عليه السلام من تحقيق أفضل الأمثلة والدروس كالتضحية والصدق وإعلاء كلمة الحق وترسيخ معنى الحرية في العالم، ومحاربة الظلم والظالمين.

وإنَّ المتأمل جيداً لأعداء الثورة الحسينية من الطواغيت والظلمة والكفرة الذين كانوا يجتهدون ببذل الغالي والنفيس، لإطفاء ثورة الحسين ومبادئه، إلا أنهم ما زالوا يمارسون الفشل بعد الفشل، وتظل ثورة الإمام الحسين ومبادئه باقية ما بقي الدهر، فقد أحيا الحسين بقضيته الخالدة سيرة ونهج جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد كان الحسين عليه السلام منسجما مع فكر جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وكان انسجام النبي بسبطه انسجاما رساليا أراده الله تعالى أن يتحقق على الأرض، فكان الحسين عليه السلام المجاهد الأبرز، المقتدي بفكر جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الذي عرض عليه المشركون الدنيا بذهبها وفضتها قائلين لأبي طالب أبلغ ابن أخيك إن كان يريد المال أعطيناه المال الكثير الذي لم يعطَ لأحد من قريش، وإن كان يريد الملك والجاه توّجناه على العرب، فجاء أبو طالب إلى النبي وأبلغه بما صرح به القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشجاعة واقتدار وحمية على دينه وعقيدته: "يا عَمَّاهُ، واللهِ لو وضَعوا الشَّمسَ في يميني، والقَمرَ في شمالي، على أنْ أَترُكَ هذا الأمْرَ حتَّى يُظهِرَهُ اللهُ أو أَهلِكَ دُونَهُ فيهِ؛ ما تركْتُهُ". وهكذا أيضًا انطلق الحسين عليه السلام بثورته المباركة وهو يقول: "لاَ وَاَللَّهِ لاَ أُعْطِيكُمْ بِيَدِي إِعْطَاءَ اَلذَّلِيلِ وَلاَ أُقِرُّ لَكُمْ إِقْرَارَ اَلْعَبِيدِ"، مستعينًا بفكر جده المصطفى وأبيه المرتضى وأمه الزهراء في محاربة الباطل وأهله، لذا وقف في يوم العاشر من المحرم وقفة المجاهد والناصر والذاب عن دينه، ولم يكتف بتقديم نفسه قرباناً لله تعالى في سبيل الدفاع عن الإسلام، بل جعل يقدم أولاده وأنصاره وأصحابه أمامه للدفاع عن المقدسات وكان يقول: (اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا يُرْضِيكَ فَخُذْ حَتَّى تَرْضَى) وكان يقول:

سَأَمْضِي وَمَا بِالْمَوْتِ عَارٌ عَلَى اَلْفَتَى

إِذَا مَا نَوَى حَقّاً وَجَاهَدَ مُسْلِماً

وَوَاسَى اَلرِّجَالَ اَلصَّالِحِينَ بِنَفْسِهِ

وَفَارَقَ مَثْبُوراً وَخَالَفَ مُجْرِماً

فَإِنْ مِتُّ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ عِشْتُ لَمْ أُلَمْ

كَفَى بِكَ مَوْتاً أَنْ تُذَلَّ وَتُرْغَمَا

وبعد كل ذلك قتل كل من معه وبقي وحيدا فريدا ينادي: "أَمَّا مِنْ ناصِرٍ يَنْصُرنَا؟" أهل البيت، ثم قتل مظلوما عطشانا شهيدا محتسبا ذلك في سبيل الله تعالى، وسطر بذلك معنى انتصار الدم على السيف.