عاشوراء والإعلام المبتور

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي

لم يعد إحياء عاشوراء حدثاً عابراً يُحييه بعض المسلمين، بل فرض نفسه وغدت تشير إليه مختلف وسائل الإعلام، ويكثر الحديث عنه في وسائل التواصل الاجتماعي، بل لم يعد الاحتفال به حصرا على المُسلمين؛ فهناك عدد من المجتمعات غير المسلمة تقوم بإحياء هذه المناسبة الأليمة.

وحادثة عاشوراء استُشهِد فيها الإمام الحسين بن علي سبط النبي المصطفى، وتعرض أهل البيت فيها للسبي، فتم سبي السيدة زينب بنت الإمام علي، وعدد من نساء أهل البيت من كربلاء إلى الكوفة، ومنها إلى الشام. لكنَّ اللافت للنظر أنَّ غالبية وسائل الإعلام تركز وبشكل كبير على بعض الطقوس التي تجعل الآخرين ينظرون للاحتفال بهذه المناسبة بصورة غير منصفة؛ فإحياء هذه المناسبة الأليمة كغيره من المناسبات الدينية عند المسلمين تعرض على مر الزمن لتدخل العادات الدخيلة والتقاليد الاجتماعية، ومن ثم صبغت هذه العادات بصبغات دينية وطقوس لا علاقة لها بأصل المناسبة، فهي أقرب لكونها عادات اجتماعية تختصُّ بها المجتمعات المختلفة من كونها أمورا لها صلة بالمناسبة.

لذا؛ فلابد من التنويه إلى أنَّ عددا من هذه العادات الاجتماعية الصقت بالمناسبة ربما قبل بضع عقود من الزمن وتتعرض لانتقاد شديد حتى من قبل بعض من يحيون هذه المناسبة ويعدونها ظواهر سلبية وخروجا عن أهداف إقامة هذه المناسبة المهمة.

إننا نرى أهمية تصدي العلماء الواعين والمثقفين المهتمين لبعض هذه الأمور، والتي يطلق عليها طقوس وهي أبعد ما تكون عن ذلك، بل نراها تخالف روح الإسلام، وتعكس صورة غاية في السلبية عن هذه الواقعة، كما نرى أن الآخرين لهم الحق في النفور مما يقوم به البعض من طقوس ما أنزل الله بها من سلطان.

لكننا نطالب في الوقت نفسه بأن يُنظر إلى الجوانب الإيجابية من إقامة هذه المناسبة، وسأسرد هنا عددا من الأمثلة لتوضيح هذه الجوانب الإيجابية:

إنَّ مما يلفت النظر في إحياء هذه المناسبة هو الحضور الجماهيري الضخم، فقاعات المجالس المخصصة لهذه الذكرى تمتلئ عن بكرة أبيها في الأيام الأولى من شهر الله المحرم وحتى ليلة العاشر منه. لذا؛ فهي فرصة ذهبية لإيصال رسائل وتثقيف المجتمعات بما يواجهها من تحديات، فنادرا ما نستطيع أن نجمع هذه الأعداد الغفيرة من الجماهير التي جاءت لتستمع إلى الخطيب بإرادتها ودون إجبار من أحد.

لذا؛ فمسؤولية الخطيب مسؤولية جسيمة وكبيرة، فإذا كان الإنسان منا سيحاسب على كل كلمة يتحدث بها، فالخطيب حسابه أشد لأنه يتحدث باسم الدين، وعليه أن يستغل هذه التجمعات الكبيرة ويلقي عليهم ما يفيدهم وينفعهم، وألا يضيع وقتهم فيما لا فائدة تُرجى منه؛ فالخطيب الذي يضيع 30 دقيقة فيما لا فائدة فيه ويستمع له 500 شخص، فإنه يكون قد أهدر ما يقارب العشرة أيام بلياليها.

لكن ولله الحمد، فإنَّ من الخطباء ممن يحملون الهم الديني ويملكون وعيا ويشعرون بمسؤوليتهم تجاه مجتمعاتهم، نلاحظهم في هذه السنة مثلا أكثر تركيزا على مواضيع الساعة كموضوع الشذوذ الجنسي والنسوية والثقافة الأسرية والحرب الناعمة والهوية الاجتماعية وغيرها من المواضيع التي تواجه المجتمعات المسلمة.

إنَّ ما يُميز هؤلاء الخطباء هو الوعي الكبير الذي يملكونه والحس الديني، وهو ما يجعلهم متابعين لما يتم طرحه في العالم من مواضيع وقضايا فكرية وأخلاقية تهم المجتمعات الإسلامية؛ فالآمال معقودة عليهم في توجيه المجتمع لما فيهم خيره وصلاحه، خاصة مع الهجمات الشرسة التي تتعرض لها مجتمعاتنا من ضرب للقيم الإسلامية في جذورها، فشكرا لهم ولعطائهم الثري.

كما لابد أن نشيد ببعض الطقوس الاجتماعية الأخرى التي تنم عن وعي المجتمعات، ففي عدد من المناطق في بلادنا الحبيبة وبعض الدول الأخرى يتم التبرع بالدم إحياءً لقيم التضحية التي جسدها الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء، كما يهتم عدد ممن يحيون هذه المناسبة بتقديم الطعام للحضور فيشتركون معًا في تناوله، مما يزيد من الألفة والمحبة بين أفراد المجتمع.

ومن الأمور اللافتة للنظر أنَّ عددا من المجتمعات انتبهت لأهمية الأبعاد المختلفة للمناسبة وأهمية تجديد الطقوس المرتبطة بها، بما يتناسب وروح العصر ويواكبه، فقامت بتقديم احتفاليات أدبية مخصصة للشعر والإنشاد وأخرى لفن الرسم والمسابقات الثقافية.

لذا؛ فإنَّ على وسائل الإعلام أن تكون مُنصِفة في وصف الحدث وتنقل الصورة كاملة عن هذا الاحتفال الديني المهم، بدلًا من اقتطاعها وتشويهها ونقلها مبتورة، فمن يصرح لك بنصف الحقيقة ليس بكاذب، لكنه قطعا لا يستحق ثقتك، فلقد أخفى عنك نصفها الآخر.