المسؤولية تصنع المواطن الصالح

 

 

ميرفت بنت عبدالعزيز العريمية

شعور جميل أن تكون لديك مسؤولية، حتى وإن كانت صغيرة، إنه الشعور بالحياة، والأهمية والإنجاز، فلا معنى لحياة تكون بلا مسؤوليات نسعى لإنجازها كل يوم تشرق فيه الشمس. لكن هل تستوي الحياة بلا مسؤوليات وعمل، كما يحب أن يعيش البعض؟ أن لا يقوم بشيء غير الأكل والنوم واللعب والانغماس في لا شيء، هذا السؤال يقودني إلى قصة شدّني عنوانها "يا ليتني كنت بطاطا" وهي ضمن سلسلة قصصية للأطفال، تدور أحداثها حول الطفلة "ماسة" التي تعبت من أداء واجباتها ومن المسؤوليات التي أنيطت بها، لدرجة أنها تمنت أنت تكون "بطاطا "، وهو كلبها الأليف الذي يأكل ويلعب وينام ولا يقوم بأي شيء آخر؛ لذلك حقق لها والداها أمنيتها وتركوها بلا عمل ولا مسؤوليات لفترة من الزمن حتى تتعلم الدرس، فأصابها الملل وندمت وطلبت من والديها أن تعود "ماسة" كما كانت تقوم بمسؤولياتها السابقة.

قصة عبَّرت عن الفكرة، فنحن كبشر يختل توازننا إن أصبحنا بلا مسؤوليات أو مهام، فالحياة حينها قد تصبح جوفاء فارغة مُملة كما أصبحت حياة "ماسة"، وهي ليست الوحيدة؛ فكل يوم نرى أشخاصًا يفكرون كما تفكر "ماسة"، وترى في المسؤوليات عبئا لا داعي له، فهم يعتبرون أن متعة الحياة في الأكل والشرب واللعب؛ لذلك نراهم يتأفّفون عند إعطائهم المسؤوليات ويتملصون عن أدائها، أو قد يبحثون عن من يتحمل عنهم الأعباء حتى يستمتعوا بالحياة.

البعض يحب أن يقضي حياة بلا أدنى مسؤولية، ويرى المتعة في عمل لا شيء، ويستمتع أكثر بإلقاء جل مسؤولياته على أعناق الآخرين، بل حتى إنَّه قد يتهمهم بالتقصير إذا كانت المسؤوليات كثيرة قد أعاقت قدرتهم على العطاء، وفي هذا الصدد يقول أهل الاختصاص إنَّ القدرة على تحمل المسؤولية تتباين من شخص لآخر والمواقف وحدها ما تظهر قدرة الإنسان على تحمل المسؤوليات أو عدمها. حتى إنَّ البعض من البشر قد يفتقر للجُرأة والقدرة على مواجهة الأزمات والمشكلات ويتهرب عند أول فرصة وقد يعتريه خوف مرضي وهو ما يسمى بـ"الهايبوفوبيا"، وينسحب دون سابق إنذار ويتخاذل عن أداء واجباته، كي يخفي عيوبه ونقاط ضعفه.

ومما لا شك فيه أنَّ للتربية دورا كبيرا في هذا الشأن؛ فالطفل الذي اعتاد على الدلال وعلى عدم تحمل المسؤولية منذ نشأته، لا نتوقع منه أن يتحمل المسؤولية عندما يكبر؛ فسنوات الطفولة هي المرحلة الفاصلة التي تتشكل فيها شخصية الطفل.

لكل منَّا دور مرسوم بالحياة لا يمكن أن يؤديه شخص آخر أو حتى كائن آخر فنحن لم نخلق عبثا؛ فالإنسان لا يستطيع أن يقوم بدور الشجرة أو مسؤولياتها في هذا الكون الفسيح وهي كذلك لا تستطيع أن تقوم بدور الرياح أو الجبال.

عالمنا مليء بالسقطات والأخطاء والتجاوزات القاتلة التي تُحدث خللًا في موازين الحياة نتيجة هروب البعض من المسؤولية عن قصد وإصرار.

كيف يمكننا أن نتقدم في الحياة إذا هربنا من المسؤوليات، ولا تكون حياتنا فارغة خالية من إنسانيتنا؟ ألا نصاب بالملل ونسقط في دوامة المفاسد والانحلال القيمي؟ حياة بلا مسؤولية يعني أن يتملص الآباء عن أدوارهم التربوية ويتخلى المعلم عن رسالته التعليمية ويتهرب الطبيب من مسؤوليته الإنسانية في إنقاذ الأرواح.

تخيل مؤسسة بلا مسؤوليات، موظفون يتهربون عن أداء مسؤولياتهم لأنهم يعملون في بيئة عمل تتصيَّد الأخطاء أو بصلاحيات فضفاضة، فلا تجتهد لأن هناك من يتربص بك في ركن ما من أركان المؤسسة.

وهناك من يتهرب من المسؤولية لأنه يخشى أن يفقد كرسيه أو يكلف بأعباء جديدة أو لأنه كسول لا يحب العمل. نماذج كثيرة للهاربين من المسؤولية الذين أحدثوا خللا في بنية المجتمع وتراجعا في نموه لأنهم فقط اختاروا أن لا يفعلوا شيئا يذكر.

... إنَّ الهروب من المسؤولية مؤشر ضعف الفرد أو المؤسسة أو المجتمع حتى المجتمعات قد تتملَّص عن مسؤولياتها عندما تقف صامته أمام مشكلاتها. عالم بلا مسؤوليات هو عالم مُهدَّد بالفناء والخراب كالسفينة التي تبحر بلا ربان، تصارع وحدها الأمواج دون أن تهتدي إلى طريق الأمان. المرحلة الوحيدة من حياتنا التي كنا بها بلا مسؤولية هي مرحلة الطفولة الأولى، حينها كان الوالدان هما من يقودان حياتنا إلى أعتاب النضوج، ومنها استلمنا دفة حياتنا بمسؤوليات تجاه أنفسنا والأسرة والمجتمع والعمل، فلا أحد لديه مسؤولية واحدة فقط في هذه الحياة.