الشيخوخة عطاء وليست بداية للفناء

 

 

ميرفت بنت عبدالعزيز العريمية

من السيناريوهات التي تدور في مجتمعنا لمن تجاوز الثلاثين، الشيخوخة النفسية والمرض وآلالم المفاصل والحزن والخوف والقلق وفيكس وأبو فاس والملابس الغامقة.. هذه الفئة لا تعيش حاضر الحياة بل تنتظر المحطة الأخيرة بحزن واستسلام. فالثقافة السائدة اعتبرت الشيخوخة مرحلة بلا أحلام أو طموح، مرحلة تحرم حب الحياة إذا تجاوزت سن الثلاثين؛ فالبعض خضع واستسلم والبعض خرج إلى الحياة غير مبال بالنظرة السوداوية، فنراهم يتمتعون بروح الشباب وحيويتهم.

الحياة جميلة وبها مساحات لم تُعش، تكتشفها عندما تسافر وتجوب الدول التي يوجد بها أعداد كبيرة من المعمرين يعملون في الفلاحة والتجارة ويقضون حوائجهم مترجلين رغم بلوغهم سن الشيخوخة. تجد من يعمل ويعيش حياة صحية لم تمنعها التجاعيد التي غزت جسده، يفرح ويتريض ويسافر بل حتى إن البعض يبني حياة جيدة بعد الستين مليئة بالحيوية بعد أن قلت مسؤولياته، إنها روح الشباب التي يتنفسون. عندما ترى رجلا تجاوز السبعين يعمل مزارعا وامرأة تجاوزت الثمانين بكامل صحتها وأناقتها مبتسمة، حينها تشعر أنك قادم من كوكب مختلف كوكب يخشى الحياة.

ديمومة الشباب ليست فكرة جديدة، فقد تحدثت الكتب القديمة منذ آلاف السنين عن وجود الينبوع الذي يجدّد شباب كل من يشرب أو يستحم به، فخرج الكثير من الرحالة والمستكشفين في العصور المختلفة، أمثال الإسباني خوان بونس دي ليون باحثين عن حقيقة هذا المكان حتى إن المؤرخ هيرودت قد ذكرها في كتبه. ومؤخرا، اكتشف العلماء أن سمكة كيليفيش التي تعيش في البرك الضحلة التي اعتراها الجفاف في زيمبابوي وموزمبيق تستطيع أن تبقى خارج المياه لفترات حياتية مختلفة، ففي فترة الجفاف تدخل في سبات وعندما يعود المطر تستأنف حياتها من جديد، لذلك يدرس العلماء إمكانية الاستفادة من حمضها النووي في أبحاث التحكم في العمر البيولوجي للإنسان ومكافحة شيخوخة خلايا الجسم.

وكما نرى، فقد اختلفت طرق ووسائل البحث عن ينبوع الشباب في كل حضارة من الحضارات القديمة والحديثة، إلا أن البحث لا يزال قائما عبر مراكز أبحاث علمية، وإن كانت المسميات اختلفت، فاليوم يتحدثون عن تقليل عدد السنوات والعمر البيولوجي للإنسان عبر اتباع نمط حياة يساعد على تجديد نشاط خلايا الجسد والدماغ، فكما هو معروف أن العمر الزمني يعكس عدد سنوات الإنسان منذ الولادة ولا يعكس حالته الصحية، أما العمر البيولوجي، فهو يقيس حالة الجسم وقدرته على القيام بالوظائف المختلفة والمحافظة على توازن الجسم وتمتع الإنسان بمناعة جيدة ضد الأمراض من خلال قياس المؤشرات الحيوية للجسم.

وقد توصل العلماء إلى أنَّ العمر البيولوجي للجسم يتأثر بالعوامل المحيطة كالإجهاد والتوتر وأنماط الحياة غير الصحية في تناول الطعام والمشروبات والتدخين والنوم. ولاحظ الباحثون أن الحمية الغذائية الغنية بالخضراوات والفواكه والمأكولات البحرية والأسماك مع نشاط بدني وتمارين التأمل واسترخاء تساعد على تقليل خمس سنوات من العمر البيولوجي للإنسان. وأن العقل يؤثر على صحة الجسد وعلى مدى استسلام الإنسان للمرض، فقد وجد الباحثون أن جسد الإنسان يستجيب للصراعات الاجتماعية والنقد والرفض؛ وبالتالي فإن إحساس الإنسان بأنه منبوذ اجتماعيًّا أو منعدم العلاقات الاجتماعية قد يعرضه للأمراض والوفاة المبكرة.

إنَّ الحياة الحديثة أبعدتنا عن الفطرة الإنسانية وطبيعة الاجتماعية للإنسان تحت مسميات الفردية والاستقلالية وغذت فيه الكثير من الأفكار السلبية حول الحياة، فابتعد الإنسان عن طبيعته بالجري وراء مفاهيم محرفة عن الثروة والراحة؛ لذلك يرى العلماء أن التعافي من الإجهاد قد يساعد على تقليل العمر البيولوجي.

في اليابان يعبر مصطلح (إي كي جاي) عن سر الحياة الطويلة؛ حيث يوجد بها أعداد كبيرة من المعمرين، وهي ليست الوحيدة في العالم؛ حيث وجد العلماء في بعض المناطق في باكستان وكوستاريكا قرى من المعمرين الذين يتمتعون بحياة صحية وبمتوسط عمر بين الستين والسبعين، ولديهم القدرة على العمل في الحقول حتى بعد المائة عام، والسير لعدد من الكيلوميرات يوميا. وبالرغم من حرمانهم من الخدمات الحديثة كالكهرباء والمياه النقية، إلا أن ذلك ساعدهم في الخلود المبكر إلى النوم وتناول المياه المعدنية من الينابيع الغنية بالكالسيوم والمعادن التي تعزز من صحة القلب. ووجد العلماء أنَّ انتقال نفس السكان إلى المدن يفقدهم خصائص صحية كانوا يتمتعون بها في قراهم؛ لذلك فإنَّ الجينات الوراثية ليست لها علاقة بطول العمر بل نمط الحياة الصحي هو ما يتحكم بشيخوخة الجسد.

إنَّ الحقيقة الذي اكتشفها العلم الحديث، تؤكد أنَّ العودة للطبيعة والحياة البسيطة سر العمر الطويل وعلاج لأمراض الشيخوخة، وأن العلاقات الاجتماعية الجيدة تحفز الصحة النفسية والجسدية للبشر، وأنَّ المناطق التي انعزلت عن العالم اكتفت بنفسها ومواردها ولم تناشد المدنية الحديثة ولم تطالب بحصتها من التعمير تمتع سكانها بروح الشباب الدائم وسط الطبيعة الرائعة. لا نحتاج إلى ينبوع الشباب أو عمليات تجميلية للتمتع بالشباب الدائم، فإنَّ الحل يكمُن في العودة إلى الطبيعة التي تعيد الصفاء إلى الروح والصحة إلى الجسد والعيش بقناعة والتسامح مع الذات، وكلها أشياء ممكنة فقط تحتاج إلى إرادة قوية تستغني عن مكتسبات وهمية. وكما تغنَّى الشعراء بروح الشباب كونها من المراحل العمرية الأكثر جمالا ليس بجمال الجسد فقط لكن بجمال العقل والروح اللذين يكونان في قمة العطاء والحيوية، ولا ضير أن نناشد الشباب بقول الشاعر:

ألا ليت الشباب يعود يوما.. فأخبره بما فعل المشيب

ونحن نعتبر أن الشيخوخة ليست بداية الفناء بل مرحلة للعطاء.