جابر حسين العماني
jaber.alomani14@gmail.com
عُرفت مجتمعاتنا العربية منذ القدم بتماسكها واتحادها وترابطها الاجتماعي؛ فلا تمرُّ مناسبة اجتماعية إلا وتجد الجميع يجتمعون تحت سقف واحد، متقابلين، متحابين، متصافحين، متصالحين بينهم، كل يبتسم للآخر، يناقشون ويحاورون، ويحللون أوضاعهم الاجتماعية مع كبار القوم من المشايخ والرشداء والمسؤولين عن المجتمع، لا ينصرفون من تلك الاجتماعات إلا بحل مشاكلهم الاجتماعية والأسرية ووضع النقاط على الحروف، هكذا كانت مجتمعاتنا العربية الأصيلة، تسعى دائمًا لإيجاد الحلول المناسبة لترابط المجتمع ونجاحه وازدهاره أخلاقيًا قبل كل شيء.
اليوم، وبعد أن أصبحنا نعيش في الفضاء الإلكتروني الواسع، وتحول المجتمع العالمي إلى ما يُسمَّى بالقرية العالمية الواحدة، وغزت مجتمعاتنا العربية والإسلامية العادات الغربية، بدأت مجتمعاتنا العربية تنسى لقاءاتها الاجتماعية تحت السقف الواحد؛ بهدف الحوار الجاد، واكتفى البعض بلقاءات الأعياد والأعراس والأحزان والتي لا ترى في تلك اللقاءات سوى الموائد المتنوعة والمختلفة من الطعام والشراب مع غياب الحوارات الجماعية الجادة الباحثة عن الحلول النافعة مع أعيان المجتمع، بل وتحولت تلك الحوارات واللقاءات الجميلة إلى مجرد مجموعات واتسابية تسمى بـ"قروبات الحارة أو المجتمع"، والتي لا ترى فيها إلا كثرة تداول الرسائل الصباحية والمسائية، وهذا في حد ذاته أمر جيد لا غبار عليه إذا كانت تلك القروبات يجتمع فيها الجميع بهدف الحوار النافع ولو بين فترة وأخرى، والذي من خلاله يتم الوصول لنتائج تساعد المجتمع على النجاح والازدهار.
مُؤسف جدًّا عندما نرى اليوم أغلب قروبات المجتمع أعضاؤها هم فقط أبناء المجتمع، أما المسؤولون عن المجتمع والمسؤولون عن الدوائر الخدمية في المحيط الاجتماعي فبعيدين عن تلك المجموعات، وإذا تواجدوا فيها لا يكون لهم الدور الفاعل في الحوار أو الحديث مع الناس إلا ما رحم ربي، وكأنما مسؤوليتهم محصورة فقط على الجلوس على الكراسي النظيفة واللامعة والمستديرة، أو الظهور للناس بخناجرهم وملابسهم الأنيقة، والإعلام يلتقط لهم الصور الجميلة التي تنشر بأمرهم في الجرائد والمجلات والصحف المحلية وربما العالمية أحيانا.
اليوم.. ونحن نعيش الفضاء الإلكتروني وكثرة تواجد القروبات الواتسابية وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، أرى من الواجب على المسؤولين في المجتمع استثمار تلك المجموعات الاجتماعية، والنزول إلى الناس من خلالها وتلمس احتياجاتهم، وخدمتهم وعدم الاكتفاء فقط بالجلوس على المكاتب أو مواقع العمل للقاء الناس، فما أجمل أن تجد المسؤول يعيش بين الناس، يتحسَّس معاناتهم ورغباتهم، محاولا تقديم أفضل ما عنده من خدمات اجتماعية لمجتمعه ووطنه وأرضه.
ما أجمل المسؤول عندما يقتدي بالأنبياء والخلفاء الراشدين الذين لم يكتفوا بالعمل من مواقع عملهم، بل كانوا ينزلون إلى الشارع ليقفوا بأنفسهم على أحوال الناس، وهنا لنا في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أسوة حسنة، فقد كان يرأس بخريطة اليوم أكثر من خمسين دولة، ومع ذلك كان يزور الأسواق ويلتقي الناس ويلتمس احتياجاتهم.
لقد تميَّزت سياسة خليفة المسلمين علي بن أبي طالب الإدارية في المجتمع بعدم الرضا عن الباطل، وعدم القبول بأنصاف الحلول غير الكاملة، وهذا ما ذكره التأريخ عن حياته في عزل عمَّال بيت المال، واسترداد ما أخذ ووزع من أموال بيت المال.
كان علي بن أبي طالب يركز دائماً في دولته ومجتمعه على أهمية المواقع الإدارية للمسؤولين، وقدم الكثير من التوجيهات المهمة للمسؤولين لإصلاح المواقع الإدارية التي هي حلقة الوصل بين المسؤول والمجتمع، وأهمية العمل السليم والصحيح لإجراء معاملات الناس؛ فهي تمثل أهمية بالغة في حسن إدارة شؤون الناس وإصلاح واقعهم المعيشي؛ وذلك من خلال تواضعه للناس وزيارته الشخصية إلى حاراتهم وبيوتهم ومساجدهم وأماكن تجمعهم.
اليوم، ونحن نعيش سهولة الوصول للناس من خلال القروبات الاجتماعية أو برامج التواصل الاجتماعية المختلفة عبر الفضاء الإلكتروني، علينا استثمار كل ما هو متاح لخدمة المجتمع، نعم قد نعذر المسؤول سابقاً لأنه لا يستطيع ربما الوصول إلى الناس بسهولة لعدم توفر الإمكانيات، أما اليوم فالمسؤول غير معذور فالإمكانيات المتوفرة في المجتمع كثيرة خصوصا عبر الفضاء الإلكتروني؛ لذا ينبغي استغلال مواقع التواصل الاجتماعي بالشكل السليم والصحيح بهدف الوصول إلى أفضل الخدمات التي ينبغي على المسؤول تقديمها لمجتمعه ووطنه.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اَللَّهِ فِيمَا أَنْتُمْ عَنْهُ مَسؤولُونَ وَإِلَيْهِ تَصِيرُونَ"، فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: "كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ"، وَيَقُولُ: "وَيُحَذِّرُكُمُ اَللّٰهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ"، وَيَقُولُ: "فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ" صدق الله العلي العظيم.