لم أذهب معهم

 

 

علي بن سالم كفيتان

يُخالجني حزن عميق وشعور بالعزلة لأنني لم أذهب معهم؛ فقدري أن أبقى وحدي هنا. لقد خلت القرى من ساكنيها وباتت أطلالًا، جميعهم رحلوا عبر الدروب المعفرة بالعرق والغبار، وقفتْ طفول تناظرني قبل أن يذوب جسدها النحيل في الأفق واختفى الركب، ولكنني ما زلت أسمع أصواتهم عبر الوادي؛ فالطيور لم تغرد في ذلك المساء، واحتجبت النسمات حتى باتت الأشجار كالأصنام الساكنة دون حراك، وكأنَّ كل شيء حولي يتضامن معي لنقف معاً دقائق صمت وداعاً لذلك الرحيل الحزين.

ما أصعب اللحظات التي تمرُّ هنا وما أسوأ الشعور الذي بات ينتابني وأنا أصطحب قطيعًا هزيلًا يداهمه الموت كل يوم ومع ذلك كُنا نطُوف يوميًّا في ذات المسعى، فكرت مِرَاراً وتكراراً في الاختفاء والهروب مع قوافل النساء والأطفال التي يحرُسها رجال مُدججون بالسلاح، يحملون معهم متاعا بسيطا يكفي للعبور فقط، لا أعرفهم ولكنني أشاهدهم يتجهون جميعاً إلى القبلة؛ حيث نولي وجوهنا للصلاة، وفي كل لحظة أهم فيها بالتمرد على ذاتي والذهاب معهم يناديني صوت خفي من خلفي يمنعني عن الرحيل، لقد كُنا على قارعة طريق الهجرة فدارنا محطة استراحة لتلك النفوس التي أنهكها الزمن البعض يقضي الليل معنا، والبعض يسري في قطع من الليل الدامس؛ فالظلام في تلك الحقبة أكثر أماناً من النور.

ما زلت أذكر ذلك الطفل المشلول الذي تحمله سيدة طاعنة في السن، وآخر نصف ضرير متورم العينين يمشي خلف الجميع مُمسكا بحبل يربطه بأحد حراس القافلة الذي يحاول مرارًا أن يركبه على جمل الأمتعة، لكنه يأبى إلا أن يكون مثل أقرانه رغم ما يتعرَّض له من وقوع ووقوف متكرر، وفي كل مرة ينتخي نفسه للاستمرار.

إلى أين تفر هذه الجموع التي لا تنتهي؟ ولماذا كل هذا الشقاء؟ وأسئلة كثيرة تزاحمت في رأسي دون إجابات واضحة؛ فالراحلون صامتون مُتعففون لا يكاد أحدهم يطلب منك شربة ماء إلا إذا أقدمت أنت على ذلك. فهل هؤلاء هم الحجاج الفارين من جحيم الدنيا إلى نعيم الآخرة؟ رجل لديه بضع شياه تتبعه زوجته وولديه يهرول إلينا يقذف بأغنامه في القطيع ويذهب بات قطيعنا ينمو يومًا بعد آخر، وتزداد العناية والرعاية مع تزايد الفارين من حولنا بتنا نُعرف الأغنام الوافدة على أسماء الأمكنة التي حلَّت فيها علينا لنميز أصحابها، وبات أبي يُدمغها بعلامات مختلفة عبر الكيِّ على أطراف الخد أو على رقابها، فهل سيعود الفارون يوماً ليأخذوا قطعانهم؟ هذا ما كان أبي متيقنًا منه، لكنَّني كنت أعتبر ذلك ضرب من الخيال؛ فالراحلون ترتسم على وجوههم سمات الغياب والفقد، ويذهبون على عجل، فلم أشاهد أحدهم يودع قطيعه أو حتى يلتفت إلى خلفه.

في كل ليلة يسدل الستار عن عشرات الحكايات على أطراف النار؛ حيث تلملم النساء الأطفال في طرف المكان، ويظل الرجال وحراس القوافل متيقظين على لهب النار كل واحد مر هنا لديه حكاية لم تُروَ سمعت من العابرين أحاديثَ عن التعليم والزراعة، ولم يكن محض حديثهم عن الكفاح فقط أسأل نفسي كل يوم مائة مرة: لماذا ما زلت هنا؟ هل هو الخوف؟ أم التردد؟ جميع أصدقائي رحلوا وهم يتُوقون لاقتناء البندقية والبعض وعدوا بالشفاء من أمراض مستعصية وآخرون سمعوا عن التعليم، فكلها كانت حججًا لتمرير الهجرة والبعد عن واقع بات لا يُحتمل.

المدينة أغلقتْ أبوابها ولفوها الإنجليز بالأسلاك الشائكة ونُصبت نقاط لتفتيش الداخل إليها والخارج منها، ونسجت الكثير من الحكايات حول حيل التهريب... رجل مسن يخفي حفنة شاي في مكان لم يتوقع أن تصل له يد الحارس الغليظة وسيدة مزجت السكر بالماء ونجحت حيلتها لتستخدمه عدة أيام في إعداد الشاي الذى يتم استبداله بجذور أشجار السدر التي تلون المزيج وتجعله أحمر قاني ليُحاكي الشاي الحقيقي، ورجل دس كل ثروته في جوف حطبة صغيرة ووضعها وسط حمولة الحطب على ظهر بعيرة ليمررها إلى المدينة؛ لأنَّ الحطب كان من المسموحات؛ كونه يمثل الوقود الذي يعتمد عليه الناس في المدن في حين يتوسط وجهاء المدينة وشيوخها لمنح تصاريح الوالي لمن يقصدهم لتمرير قوت عياله إلى خارجها، كل ذلك شكَّل مشهداً لا يمكن نسيانه، فكان هو المخاض العسير لميلاد جديد ما زلنا نعيشه إلى اليوم.