د. محمد بن عوض المشيخي *
"الحروب القذرة" هي الهجمات الإرهابية التي تقوم بها القوى الكبرى التي تُمارس أعمالها العدوانية خارج القانون الدولي والإنساني؛ والمتمثلة في: القتل والإبادة الجماعية للأبرياء في دول العالم الضعيفة التي تخضع للدول الاستعمارية عبر القرون؛ فهذه المجموعات المسلحة والمتدرِّبة لم تأتِ من فراغ، بل تشكلت من الحكومات الرسمية التي تَزعُم أنَّها تحارب الإرهاب الدولي؛ وفي مُقدمة هذه الدول التي أسَّست هذه الكيانات سيئة السمعة من المرتزقة والمجرمين، هي روسيا التي أطلقتْ في العقد الماضي شركة عسكرية رسمية تمولها الحكومة وتشرف على أنشطتها وعملياتها العسكرية وتمدها بالسلاح، وتسمح لها بتجنيد المُجرمين المحكوم عليهم بالإعدام أو بالسجن المؤبد، بل وحتى الأطفال القصر.. إنَّها "فاغنر"، هذه المؤسسة العسكرية التي وصل عدد أفرادها إلى أكثر من خمسين ألف جندي، يقدر عدد الذين يقاتلون في أوكرانيا بأكثر من 25 ألف مجند، وبعض المصادر تقول إن نصف هذا العدد قد ماتوا على جبهة باخموت. من هنا، يعترفُ الرئيس بوتين بتمويل هذه الشركة بأكثر من مليار دولار أمريكي خلال عام واحد فقط من مايو 2022 إلى مايو 2023؛ وذلك عبارة عن رواتب ومكافآت لهؤلاء المجندين المرتزقة، ولكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر؛ فقد تمرد قائد "فاغنر" يفغيني بريغوجين، إذ قاد اتباعه الذين كانوا على الخطوط الأمامية في جبهة أوكرانيا إلى داخل روسيا زاحفاً في اتجاه موسكو لكي يقوم باعتقال وزير الدفاع ورئيس الأركان الروسية اللذين لا يطيقهما. فقد تعدَّدت الروايات حول هذا التمرُّد؛ فهناك من يعتقد أن ما قام به مالك فاغنر لا يعدو أن يكون مسرحية مُعدَّة مسبقاً، وذلك عبارة عن اتفاق بين الكرملين وصاحب الشركة العسكرية، بينما من يعتقد بأن فشل مجموعة فاغنر في المهمات التي أوكلت إليها وخوفها من أن يتم حلها هو السبب في هذا التمرد، إذ إن تدخل الصديق الحميم لبوتين وهو رئيس روسيا البيضاء الذي أنقذ الموقف واستضاف هذه المجموعة الإرهابية في بلده.
لا شك أن "فاغنر" ومنذ تأسيسها في العام 2014 تُمارس أدوارًا مشبوهة وخارج القانون والأخلاق؛ وذلك بالنيابة عن الأجهزة الأمنية الروسية في الداخل وخارج الحدود؛ فكانت البداية في أوكرانيا مرورا بالعديد من الدول الإفريقية التي تطمح روسيا لأن يكون لها موطئ قدم فيها خاصة مناجم الذهب والمعادن النفيسة في كل من الكونغو ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى.
أما في الدول العربية، فتعبث هذه المجموعة الإرهابية ومرتزقتها بالأمن القومي العربي من خلال تواجدها في المعارك والحروب الأهلية في كل من سوريا وليبيا والسودان. يبدو لي أنَّ ما تقوم به روسيا حالياً من خلال أذرعها الأمنية وشركاتها العسكرية يعتبر إرهابَ دولة وعملًا يُخالف قانون المنظمات الدولية. صحيح روسيا لم تكن موجودة أو محسوبة ضمن الدول الاستعمارية في القرن الماضي؛ مثل: بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا التي نهبت الثروات وأبادت الأحرار الذين كانوا يطالبون بتحرير أوطانهم في دول العالم النامي وعلى وجه الخصوص الدول العربية. ولكن تحاول الآن أن تقلد أمريكا وفرنسا وبريطانيا بهدف تحقيق مكاسب اقتصادية وإستراتيجية في الدول العربية وإفريقيا.
أمَّا "بلاك واتر"، والتي أسسها الضابط في البحرية الأمريكية السابق إريك برنس عام 1997 باعتبارها شركة أمنية خاصة، فيتكون منتسبوها من المتقاعدين العسكريين والقوات الخاصة في أمريكا ومن الخارج وعلى وجه الخصوص مرتزقة من كولومبيا والمكسيك وجنوب إفريقيا والسلفادور؛ إذ إنَّ دخل المجند المرتزق قد يصل إلى ألف دولار في اليوم؛ فقد انتشر نشاطها في مختلف دول العالم، وتتمحور خدماتها الأمنية والعسكرية على وجه الخصوص مع الحكومة الأمريكية على أساس تعاقدي؛ إذ تكلف بالأعمال غير القانونية والمخالفة للقانون الدولي؛ إذ أبرمت "بلاك واتر" مع وكالة المخابرات المركزية (CIA) في عام واحد (2010) عقدا بمبلغ وقدره 250 مليون دولار أمريكي، بينما أسندت وزارة الخارجية الأمريكية لنفس الشركة عقدا بقيمة 150 مليون دولار أمريكي بعد ذلك بعامين.
لقد ارتكبتْ "بلاك واتر" العديد من الجرائم في العراق خلال الاحتلال الأمريكي لهذا البلد العربي، فقد أُدِين مجموعة من مُنتسبي هذه الشركة بقتل 14 مدنيا عراقيا في ساحة النسور، ولم تكن هذه الجريمة الأولى ولا الأخيرة. إذ تعرضت الشركة لانتقادات واسعة النطاق بعد أن صُنِّفت بأنها أخطر منظمة سرية في العالم، مما ترتب على ذلك أن تغيَّر مسمى الشركة عدة مرات حيث استقرت تحت اسم "أكاديمي" في الوقت الحالي.
من المفارقات العجيبة أنَّ الذين يعملون في هذه الشركات العسكرية التي أسَّستها الحكومات في كل من موسكو وواشنطن لا يخضعون للمحاسبة، بل مُنِحت لهم الحصانة فهم فوق القانون، وذلك لكي ينفِّذوا الأهداف السرية لتلك الدول الكبرى التي تستخدم مثل هذه الكيانات للقتل والسيطرة على الموارد بالوكالة عن الأجهزة الرسمية التي قد تشعر بالحرج من مخالفتها للأنظمة والقوانين الدولية.
* أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري