كل هذا الضجيج؟!

 

سالم بن نجيم البادي

 

قال ضحيّ: كل هذا الضجيج تركته خلفي وبقيت صامدًا في وجه هذا الزحف الهادر والرياح عاصفة والطوفان يتبعها وأنا وحدي في مواجهة كل ذلك لا أعرف الخوف وأقبل التحدي بشجاعة وعزم وإقدام، أجدني الآن قويًا بما فيه الكفاية للدرجة التي جعلتني أهزم كل أولئك الأعداء الذين يحاولون اللحاق بي، وقد أخذت استراحة محارب ونمت ملء جفوني، وهم في أثري يلهثون وقد خارت قواهم وتعبوا وأخذ منهم الجوع والعطش كل مأخذ، كانت المسافة بيني وبينهم بعيدة جدًا.

صحوتُ كالمارد المنفلت من القمقم للتو، لا أهتم بشيء، وحدسي لا حدود له، أستطيع الولوج به إلى أعماق النفوس وقراءة المستور، وما أعتاد الناس إخفاءه عن الآخرين. لقد هجرت العالم المحسوس ورحت أجوب بشغف عجيب العالم الخفي بعد أن انزاحت عن عيوني الحجب وروحي تحلق في سموات زرقاء صافية وبعيدة جدًا وشاسعة جدًا، ولقد طاب لي المقام هناك؛ إذ إنني أنظر إلى من هم أسفل مني نظرة واثقة لا متعالية وأحب أن أراهم وهم يركضون وأنا أقف أراقبهم بمنتهى الهدوء غير مبالٍ وتركتهم يركضون من أجل ماذا يركضون وإلى أين لا أعلم.

كل ما حولي يموج وأنا الهادئ الوحيد كل ما حولي له هدير صاخب، وأنا الصامت صمت الواثق المتأمل، وقد تخليت أخيرًا عن المثالية المفرطة ونبذت حسن الظن الزائد عن الحد.

لقد خبرت الحياة جيدًا وعرفت دهاليزها ودلفتُ إلى سراديب مظلمة ثم إلى فضاءات شاهدت فيها النور الوهاج والشمس المشرقة والقمر المنير والنجوم الساطعة والسهول والأودية والجبال المكسوة بالإخضرار والنسيم العليل يداعب قلوب أحبتي من البشر الأنقياء الأتقياء كانت قلوبهم بيضاء مثل بياض الثلج وأرواحهم طاهرة مثل الماء العذب المنساب من ينابيع صافية، إلى حيث الصدق والبراءة والخير والحب الذي يغدقونه على كل الناس حب، لا ينتظرون من ورائه المنافع والمصالح والأهواء الفاسدة لقد أحببتهم جدًا وكانوا سندي ومصدر عزيمتي الصلبة بعد الله تعالى.

وفي طريقي، مررت بقوم قلوبهم شديدة السواد وأرواحهم رمادية اللون هم أصحاب الوجوه المتعددة والأمزجة المتقلبة والنفاق وهم تجار الفتن والذين ينشرون الضغينة والحقد والكراهية بين الناس، ساروا في دروب ملتوية واتبعوا كل ناعق، وكانت الغربان دليلهم والخراب هدفهم والقول الخبيث ديدنهم والغيبة والنميمة شغلهم الشاغل يلبسون ثياب الحرباء ويأكلون طعام معاوية ثم يصلون خلف علي.

لم أهتم بهولاء إطلاقًا، وواصلت سيري، حتى كأنني لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم.. لا أهتم.. وتركتهم يقولون: مغرور.. متكبر.. متعالٍ.. مجنون.. مُحبط، ويصفونني بكل الأوصاف القبيحة. وكنت كلما زاد الأذى تزيد قوتي وثباتي على المبادئ التي آمنت بها.. غير أني في كل الأحوال استمد حولي وقوتي من الله الخالق العظيم سبحانه وتعالى.

قال ضحيّ ذلك، وقد كان شديد الاعتزاز بنفسه، وكان في أوج قوته البدنية والنفسية.