د. محمد بن عوض المشيخي **
تتجه أنظار العالم هذه الأيام إلى فلوريدا؛ إذ يَمثُل دونالد ترامب الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية أمام المحكمة الفيدرالية في أولى محطات الملاحقة القضائية، وذلك بعد توجيه 37 تهمة جنائية له في أول سابقة من هذا النوع لرؤساء أمريكا، منذ حكم جورج واشنطن وحتى اليوم.
تضمنت أهم هذه التهم: الاحتفاظ بوثائق سرية في منزله الشخصي تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، وهذا بلا شك يُخالف القوانين والأنظمة الفيدرالية، وكذلك تهمتان تتعلقان بالإدلاء ببيانات كاذبة، هذا فضلًا عن التهرب الضريبي، والذي كان من التهم القديمة التي تعود إلى عدة سنوات، فسِجِل هذه الشخصية غريبة الأطوار يحوي الكثير والكثير من المخالفات والجرائم المتنوعة حسب لوائح الاتهام. وما يمكن قوله في مثل هذه الحالة قبل صدور الأحكام القضائية عليه، أن كل متهم بريء حتى تثبت إدانته من الجهات القضائية. ولم تكن تلك التهم أول المتاعب التي تواجه ترامب؛ بل تم محاكمته بعدة قضايا سياسية ومالية وأخلاقية خلال توليه الرئاسة، وقبل ذلك بسنوات كثيرة؛ ويعد ترامب أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية يُتهم مرتين بالخيانة العظمى من مجلس النواب الذي يمثل الشعب الأمريكي، في حين أن الولايات المتحدة تدعي أنها زعيمة العالم الحر، والحارس الأمين على ديمقراطيات العالم في الشرق والغرب! ترامب هذه الشخصية التي وصلت إلى قمة السلطة، دائمًا ما يسير عكس التيار والمنطق والقانون، ولكنه محظوظ؛ لكونه في بلد المتناقضات أمريكا التي تسود فيها ثقافة (الكاوبوي) البربرية والتي تمثل المهاجرين الذين قدموا من أوروبا وأقاموا دولتهم على أنقاض حضارة السكان الأصليين والمعروفين بالهنود الحمر، والذين تعرضوا للإبادة من هؤلاء المستعمرين.
وبالفعل في السنوات القليلة الماضية، ارتكب ترامب وأتباعه من اليمين المتطرف الذين يزعمون أنهم الأحق بأمريكا دون غيرهم من الأعراق، أسوأ عمل إجرامي في تاريخ أمريكا الحديثة، وذلك بقيام مجموعة من مناصري الرئيس السابق باقتحام مبنى الكونجرس، واستهداف النواب والشيوخ أثناء اعتماد نتائج فوز جو بايدن بالرئاسة قبل أكثر من عامين. كان ترامب وأنصاره يهدفون إلى الاستيلاء على السلطة بالقوة والامتناع عن تسليم البيت الأبيض للرئيس المنتخب جو بايدن، زاعمين أن الانتخابات قد تم تزييفها وسرقتها من الحزب الديمقراطي، وأن ترامب هو الرئيس الشرعي لأمريكا، وذلك بقوة الأمر الواقع.
من المفارقات العجيبة أن يتصدر ترامب قائمة مرشحي الحزب الجمهوري، وربما الفوز بالانتخابات المقبلة في 2024، حتى ولو أُدين بتلك التهم التي يمكن أن تزج به في السجن 20 سنة على أقل تقدير، حسب الخبراء في القانون الجنائي الفيدرالي. وعلى الرغم من ذلك؛ فإن الدستور الأمريكي لا يمانع من ترشح ترامب ومواصلة حملته الانتخابية؛ وفي حالة فوزه في الانتخابات القادمة يمكنه حكم أمريكا من السجن، وذلك حسب الإفادات والتفسيرات القانونية المتعلقة بالدستور الأمريكي.
الحزب الجمهوري الذي له مكانة متجذرة في التراث الأمريكي تراجعت شعبيته في السنوات الأخيرة، فقد خسر الانتخابات في العديد من الولايات التي كانت تعد معقلًا للجمهوريين، خاصة في ولايتي جورجيا وأريزونا؛ بسبب أولًا: قيادة المحافظين الجُدد لهذا الحزب، وفي مقدمة هؤلاء ترامب، وغيره من المتطرفين المساندين للصهيونية. وكشفت دراسة حديثة أن 54% من منتسبي الحزب الجمهوري يوالون ترمب أكثر من الحزب. أما السبب الثاني فيتمثل في تراجع أعداد الجنس الأبيض من أعضاء الحزب، الذي يعتمد بالدرجة الأولى على الأجناس الأوروبية (الأنجلو-ساكسون)، وكذلك بعض المهاجرين من دول أوروبا، إضافة إلى بريطانيا، مقارنة بالزيادة السكانية الهائلة للأمريكيين الملونين، وخاصة المسلمين؛ مما دفع ترامب أثناء فترة حكمه، إلى منع الهجرة، ووضع قيود على القادمين إلى الولايات المتحدة، خاصة المسلمين منذ توليه الرئاسة في 2017.
صحيحٌ لم تكن حالة ترامب أولى فضائح رؤساء أمريكا؛ بل إن الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون استقال من منصبه 1974 بعد فضيحة "واتر جيت" الشهيرة المتعلقة بالتجسس على الحزب الديمقراطي وخيانته للدستور الأمريكي في ذلك الوقت، فقد مُنح حصانة بمجرد كتابته للاستقالة من نائبه الذي أصبح خليفة له وهو جيرالد فورد. كما إن الرئيس بيل كلنتون حوكم أمام مجلسي النواب والشيوخ في فضيحة جنسية عام 1998 كانت بطلتها المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، لكنه لم يُجرَّم في تلك القضية الأخلاقية على الرغم من وقوعها، وتعرض للمساءلة بتهمة الكذب على الكونجرس.
لا شك أن فترة رئاسة ترامب كانت من السنوات العجاف في تاريخ أمريكا، فقد قوّض علاقات واشنطن بكل الحلفاء، استثناء بريطانيا؛ إذ طلب من اليابان وكوريا الجنوبية وتايون وأوروبا، ودول الخليج العربية أيضًا، مُضاعفة مساهمتهم لأمريكا مقابل الحماية الأمريكية المزعومة لهذه الدول، وقد وضع العلاقات الأمريكية مع الجميع على المحك، بينما على الجانب الآخر فرض سيطرته على المقدسات في العالم العربي، كمنح "إسرائيل" القدس الشريف، إذ أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وكذلك منح إسرائيل اعتراف أمريكا بسيادتها على مرتفعات الجولان السورية المحتلة.
هناك اعتقاد يسود بين العديد من الساسة والباحثين؛ بأن انهيار أمريكا إن حصل، سوف يكون على يد اليمين المتطرف الذي يمثله بعض أجنحة الحزب الجمهوري المتمثل في ترامب وأنصاره، خاصة في حالة فوزه بالرئاسة العام المقبل؛ كونه يميل إلى الفاشية والتعصب والعنصرية.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري