د. عبدالله باحجاج
ما يطرحه عنوان المقال، قضية قديمة- جديدة؛ إذ جاءت عملية تحديد سعر تذكرة مسار مسقط صلالة مسقط عند 45 ريالًا عمانيًا خلال موسم الخريف فقط، وبشروط مُقيّدة، رغم التوجيه السامي بمساواة دعم وقود مطار صلالة بنفس السعر في مطار مسقط الدولي، كان توجيهًا مطلقًا، وليس مقيدًا بفترة الخريف، ويُفهم باتجاه تخفيض أسعار تذكرة هذا الخط بصورة دائمة، تخفيفًا لمعاناة المواطنين من السعر المرتفع على الخط الداخلي.
الطموحات الاجتماعية ذهبت إلى هذا الفهم الموضوعي للتدخل السامي توقيتًا وظروفًا- سيأتي على ذكرها لاحقًا- والكُل ترقّب الخفض الملموس في سعر التذكرة، لكن المُفاجأة الصادمة ما ذكرناه سابقًا بتخفيض السعر خلال فترة زمنية قصيرة جدًا، وبعيدة كل البعد عن السياقات الاجتماعية والوطنية لمطالب المجتمع القديمة- الجديدة بأن يكون السعر وفق الظروف الاجتماعية المالية، ويتناغم مع البُعد الوطني للخط الداخلي.
وحتى كل من اطلع على توضيحات شركة مطارات عمان، وترحيب مكتب محافظ ظفار بالتوجيه السامي، سيخرج منها بذلك الفهم العام، وبالتالي لا يُمكن قبول اختزال "الدعم المباشر" لسعر الوقود بمطار صلالة في زيادة عدد رحلات الطيران وخفض السعر خلال موسم الخريف؛ فهذه عملية ستستفيد منها في المقام الأول شركات الطيران والفنادق خلال فترة زمنية محدودة فقط، فأين مصلحة المواطن؟!
قد يُقال في إيجار الشقق؛ حيث يلجأ المواطن لترك منزله بهدف تأجيره في الخريف كي يكسب ريالات تعينه على دفع فواتير الكهرباء والماء المتأخرة، أو سداد ديونه الأخرى، أو لتوفير مستلزمات عيد الأضحى المبارك، وهنا يمكن القول إن سياح هذه الشقق يأتون برًا، وأغلبيتهم من الأسر العمانية، وهنا تنتفي مجموع المصالح الاجتماعية الإقليمية المباشرة من تقييد التوجيه بفترة الخريف.
هذه ليست المرة الأولى التي يُشكل تطبيق التوجيهات والتعليمات العليا، مفاجأة صادمة للمجتمع، فلدينا تاريخ حديث مع الصدمات ناجمة عن قلب المعادلة البنائية التاريخية في البلاد، وهي الاهتمام بمستقبل الحجر والشجر قبل واقع البشر، وجعل البشر في هذا الواقع ضحايا لمستقبل البناء المادي الذي يُبنى للأغنياء، وليس لمن يتأسس على مرتبات 325 ريالًا والمرتبات والمعاشات المحدودة عمومًا، فهؤلاء لن يجدوا حتى شقة بغرفتين في المجمعات والمدن السكنية المتكاملة، التي يُخطط لها أن تكون كاملة الخدمات بما فيها الصحية، فهل ساكنوها من هذه الفئات وهي الأغلبية؟ فكيف يبدو لنا مستقبل مشهدنا الاجتماعي خلال الآجال المتوسطة والطويلة؟
إن عدم تنفيذ التوجيه السامي يعمّق الإحباط الاجتماعي، ويوسع نطاقه مما سيفقد المجتمع الثقة في مسألة التنفيذ عامة، وهنا ينبغي أن نتساءل عن مدى الرضا الاجتماعي الآن عن الوزراء؟ إذا لم يكن هذا الرضا صار مفقودًا مع بعض الوزراء، في وقت كان ينبغي فيه استعادة الثقة بين المواطن والمسؤول، خاصة وأن هناك توجيهات وتعليمات سامية في هذا المجال، لكن يبدو أن انشغالات المنظومة الوزارية بالبناء المادي للمستقبل قد أصبحت فوق الواقع المعاش لبعض فئات المجتمع، قد نجد لهم بعض المبررات إبان أزمتي النفط وكورونا، أما الآن، فلا نجد ما يجعلنا نتفهم جنوح الرهان على المستقبل على حساب الحاضر.
وسائل التواصل الاجتماعي تعج منذ يوم الخميس الماضي بردود فعل سلبية على تنفيذ التوجيه الخاص بدعم وقود الطائرات المباشر لمطار صلالة، والذي لا يستقيم- شكلًا أو جوهرًا- مع سياقات التوجيهات السامية بعد انكشاف غلاء وقود الطائرات في مطار صلالة، وعدم مساواته بمطار مسقط الدولي من حيث دعم الوقود، وهذا الانكشاف لم يأتِنا من داخلنا العماني، وإنما من مصدر خليجي في مُناسبة سياحية عربية خارجية.
وجاء كذلك على لسان الرئيس التنفيذي لطيران السلام، عندما قال "مطار صلالة يعد الأغلى عالميا بمقدار 4- 5 أضعاف من حيث التزود بوقود الطائرات"، واصفًا ذلك بأنه "يشكل عبئًا على شركات الطيران". وما كان ينبغي الاستمرارية في هذا الواقع بعد هذا الانكشاف الذي لم يكن يعرفه أي مواطن رغم معرفة العاملين في شركات وقطاع الطيران المدني، فكم كانوا أمناء على عدم وصول هذه المعلومة إلى الداخل. والتساؤل الذي ينبغي أن يُطرح هنا: لماذا هذا الغلاء المُضاعف دون مطارات العالم بما فيه مطار مسقط الدولي؟!
هذا يُرجعنا إلى تاريخية القضية التي قال عنها وزير مخضرم سابق إنه لا يجوز سياديًا أن يكون داخل الدولة مطاران دوليان، مما آثار تصريحه سخرية اجتماعية داخلية واسعة؛ لأنَّ حجته لا تنطوي على الوعي العام، ولا تزال تُحسب عليه حتى الآن. وحتى الآن لم يُعتد بجيواستراتيجية مطار صلالة رغم التحوّلات الكبرى في بلادنا التي يغلب عليها البرجماتية، ومنها أن نرى تبني نظام المركزية، وتوجيه المحافظات لتكوين اقتصاديات إقليمية- محلية ترفد خزينة الدولة بالموارد المالية الإضافية، وتنضج الآن عملية تحويل مطار صلالة إلى دولي، وإقامة مركزين للشحن والتموين، خاصة وأن بلادنا تستهدف أن تكون من بين الدول العشر الأوائل المزودة للخدمات اللوجستية بحلول عام 2040؛ حيث يُعد القطاع اللوجستي من بين أهم القطاعات التي سترفد الاقتصاد المحلي بالموارد.
هذه أهمية متزايدة للتعجيل بالصفة الدولية لمطار صلالة في ضوء قرب المطار من ميناء صلالة للحاويات الذي حقق المركز الثاني علميًا في كفاءة الحاويات، والأول على مستوى منطقة غرب ووسط وجنوب آسيا، وكذلك قربه من المنطقة الاقتصادية الحرة، والمنطقة الحرة بولاية المزيونة الواقعة على الحدود مع اليمن، وتبعد عن ولاية صلالة 280 كم، وهي البوابة التجارية بين البلدين، كما إن هذه التطورات ستوفر فرص عمل وتعزز استغلال المقومات الاقتصادية لظفار، ودونها، سيكون التنفيذ في وادٍ وتوجهات واستراتيجيات الدولة في وادٍ آخر.
التساؤل الذي يدور في الذهنية الاجتماعية العامة هو: كيف جاء السعر الجديد لمسار مسقط صلالة مسقط مؤقتًا ومُقيدًا بشروط تُفرِغ محتوى التوجيه من أبعاده الاجتماعية والإنسانية والوطنية بل من سياقاته الزمنية الموضوعية؟ فالتوجيه السامي- نكرر- جاء عامًا ومطلقًا ولم يُشر إلى 3 أشهر أو أثناء موسم الخريف، فكيف جاء التنفيذ بهذا الإخراج الصادم للمجتمع؟ وهل التوجيه السامي بدعم الوقود هو فقط خلال موسم الخريف؟ وهل حجم هذه الخطوة بحاجة لتوجيه أم تعد من الصلاحيات الحكومية؟ وهل سيظل عدم المساواة بين مطاري مسقط الدولي وصلالة قائمًا من حيث دعم الوقود للأول وعدمه للثاني؟
هناك التباسات كثيرة لابُد من الإسراع في توضيحها، في ضوء أن استمرارية الأسعار المرتفعة على خطنا الداخلي غير مقبولة لعدة اعتبارات أبرزها: مآلات الوضعية المالية للمجتمع نتيجة سياسات حكومية مؤلمة كالتقاعد الإجباري والحد الأدنى للمرتبات، والضرائب والرسوم، واستمرار التمركز الجامد للخدمات المتقدمة في العاصمة.. إلخ، إذ يُعد السفر الجوي للعاصمة مُكلفًا أكثر من السفر للخارج، وهذه ليست مبالغة، فقيمة تذكرة من صلالة إلى أوزبكستان والعودة 50 ريالًا، و20 ريالًا إلى دولة مجاورة، و80 ريالًا إلى الهند.. إلخ. هذه الأسعار قد أصبحت تمس جوهر البعد الوطني لخطنا الداخلي، وفوق المقدرة المالية للمواطنين، لذلك، لا بُد من لجم جنون الأسعار، وجعلها في مستوى تلكم الاعتبارات المتعددة، وإلّا يُصبح السفر للدول المجاورة أرخص من السفر لمسقط، والجميع يعلم انعكاسات ذلك اقتصاديًا وسياحيًا وأيضًا على السيكولوجيا الوطنية الاجتماعية.