الترهل الإداري والتنمية

 

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

 

كامل عبدالشكور يعمل مديرًا عامًا في إحدى الوزارات، مثالٌ للنزاهة وحسن الخلق، كان يتبع اللوائح والقوانين بدقة شديدة، الوظيفة لم تصنع منه ثريًا فقد كان يرفض التربح السريع والطرق الملتوية للعمل، كثيراً ما كان يواجه ضغطاً من مدير العقود لتمرير أعمال بشكل غير قانوني، مُقابل مبالغ طائلة مستغلا حاجته الماسة للنقود، فالراتب الحكومي لا يسد احتياجات الأسرة الأساسية، وكل شيء من حوله في ارتفاع ما عدا الراتب، الذي ظل قابعًا في مكانه.

عند كل مأزق يتذكر كامل نصيحة والده بأنَّ الوظيفة الحكومية وظيفة أمان ومضمونة وتمنح مكانة اجتماعية مرموقة بعكس العمل الحُر فهو عمل معيب، ولا يتناسب مع أبناء العائلات المحترمة!! كامل ليس ملاكًا والضغوط أكبر من قدرته على التحمل، فيصبح أمام خيارين، إما قبول الرشوة أو التسول وطلب الإحسان؛ فيختار التسول بعد ساعات العمل، حتى يقع في أيدي العدالة ويُحاكم بتهمة التسول ويدافع عن نفسه أمام القضاء، مطالبًا إياها بالإجابة على تساؤل من منَّا يكفيه الراتب الحكومي في ظل الغلاء الفاحش.

في قالب درامي اجتماعي مثير، كان أداء الفنان الراحل فريد شوقي، الذي جسد شخصية كامل عبد الشكور في فيلم "الموظفون في الأرض"، الذي تناول موضوع دخل الموظف الحكومي وقضية النزاهة والفساد الإداري، أو ما يُطلق عليه الترهل الإداري، قضية ليست جديدة، فنحن نعيش تفاصيلها كل يوم وفي كل مكان في العالم، فهناك من يعاني من ضعف الدخل، لكنه يكافح حتى لا يقع في خطأ أخلاقي وهم قليلون ويعانون؛ لأن النزاهة ليس لها عائد معنوي، بل بالعكس قد يواجه النزيه مضايقات واتهامات بأنه موظف مُعقد لا يفهم لغة الفهلوة، وقد يجد نفسه بعد حين في مكان لا يستطيع، أن يتخذ فيه أي قرار أو يحال إلى التقاعد، أو قد يدفع إلى الاستقالة بعد أن يحترق وظيفًا.

في عصرنا هذا أصبحت الخيارات محدودة أمام الموظف، إما الرشوة أو أخذ العمولة، أو التسول إن أراد أن يمنح أبناءه حياة كريمة، فكم شخص يستطيع أن يدير حياته براتب ينتهي أول الشهر وتسعة وعشرون يومًا يقضيها بين سلف ودين، وسط غلاء متفاقم وتضخم مستمر وطلبات لا تنتهي؟

الفساد الصغير أو الثانوي وهو يتعلق بالموظف الصغير، الذي يقبل أن يأخذ أموالًا بسيطة لتمرير معاملة أو ترقية أو تسريب معلومات عن مناقصة للمنافسين أو إخفاء مخالفات وإلغائها.. وغيرها من الممارسات غير القانونية التي تنتشر بين الموظفين في القطاعين العام والخاص في كل مكان. عادةً ما يرتبط هذا النوع من الفساد مع ضعف إجراءات الحوكمة وتوفر الصلاحيات الفضفاضة وضعف الرقابة وإجراءات عمل غير واضحة وأهمها ضعف الرواتب التي يتقاضاها الموظفون.

ليس هناك فساد صغير؛ فالفساد كله ينخر في جسد المجتمع، وإن كبر وتجذر يصعب اجتثاثه، فليس بالأمر الهين أن يعتاد الموظف أخذ إكرامية على كل معاملة على شكل أموال أو خدمات من المستفيد من المعاملة، ونجده بعد حين قد بات ثريا بين عشية وضحاها، دون أن يسأل من أين لك هذا؟!

المستثمرون هم أكثر الضحايا؛ فالبعض ممن يشتكي من عرقلة معاملاتهم في المؤسسات، من جراء رفضهم منح الإكراميات على كل معاملة، أو دفع الرشوة، فيخسرون مشروعاتهم. فكم من مستثمر اختار أن يبحث عن مكان يوفر حماية لأمواله خشية أن يقع فريسة تحت براثن الفساد الصغير؟

الفساد ظاهرة طبيعية في المجتمعات ولا يوجد مجتمع خالٍ من الترهل، لكن تختلف حدتها من مكان إلى آخر، إلا أنها أكثر وضوحا في الدول النامية، بسبب تدنّي مستوى الرفاه الاجتماعي وانخفاض مستويات الدخل التي تدفع إلى تفشيها.

نعود إلى المشكلة الأساسية التي من أجلها كتبت المقال، كيف يمكننا أن نعالج مشكلة ضعف الرواتب ونحمي المجتمع من تبعات الترهل الإداري؟ هل بزيادة الرواتب أو بضبط الأسعار أو توفير بدائل للسلع والخدمات تتناسب مع كافة الفئات المجتمعية، أو حوكمة المعاملات والمؤسسات أو تشديد الرقابة أو كل مما سبق وأكثر؟ كيف يمكننا أن نواجه الفساد الصغير والموظف قد يواجه بين حين وآخر شائعات تهدد راتبه الصغير، وبأن منظومة الرواتب والحوافز والتقاعد في القطاعين العام والخاص قد تتعرّض إلى الشذب والتقليم، وما يتقاضاه اليوم قد يقل غدًا؟! كيف يمكن أن نواجه الفساد الصغير والموظف يعلم أنه مهدد بالفصل دون سابق إنذار بسبب الأوضاع الاقتصادية، وبالتالي قد يسقط في بئر الفساد كي يحتفظ بمصدر دخله؟

هل يمكننا أن نعالج الفساد الصغير دون تعديل منظومة الحوافز والرواتب وتنظيم حملات لتشجيع النزاهة وحوكمة المؤسسات وطرح فكرة العمل الإضافي؟

الموظف في كل مكان بات يعيش على صفيح ساخن، فاقدًا للأمان النفسي والاقتصادي؛ فالفساد الصغير يؤدي بلا شك إلى فساد اجتماعي وأخلاقي، وانهيار المجتمع وعرقلة التنمية وبث الكراهية بين أبنائه بسبب عدم تكافؤ الفرص وغياب العدالة الاجتماعية، ولا يمكننا أن نتعامل مع المجتمع كعناصر منفصلة غير مترابطة؛ فنحن نعيش في دوائر متصلة تؤثر وتتأثر ببعضها البعض وتؤثر في الاستقرار المجتمعي ككل.

تساؤلات تحتاج إلى المزيد من البحث والتمحيص.