كيف تنجح السعودية في "سعودة" الوظائف؟

 

 

مرتضى بن حسن بن علي

 

بعد الارتفاعات المتتالية في أسعار النفط منذ عام 1973 بدأت الحكومة السعودية بطرح المشاريع الضخمة والتي أدت إلى جلب عمالة وافدة بصورة مكثفة، وبداية انتشار البطالة بين السعوديين.طرحت الحكومة سياسات "السعودة" في عام 1975 من دون وجود أي تجاوب يُذكر من القطاع الخاص، كما أن تدفق العمالة الوافدة المكثفة ضاعف الضغوطات على الوضع التنافسي للعمالة السعودية.

قبل طرح "رؤية 2030"، بدأت الحكومة بإجراء إصلاحات جذرية شاملة في جميع مؤسساتها وسياساتها، ووضعت خططا طموحة لمكافحة البطالة بين السعوديين بعد أن وصلت لنحو 13%، إدراكًا منها أنه من دون أخذ إجراءات مدروسة لمعرفة الأسباب الحقيقية لعدم تجاوب الشركات لتوظيف السعوديين، فإن البطالة المتفاقمة سوف تهدد السلم الاجتماعي.

قامت الحكومة بإجراء دراسة جديدة قائمة على التحليل العلمي واتفقت مع بيت خبرة متخصص لدراسة أسباب عزوف الشركات عن تعيين العمالة السعودية والفجوة بين العاملين السعوديين والوافدين وأسبابها والأثر المترتب لتقليصها. وراجعت جميع السياسات المتبعة منذ عام 1975 والتي لم تخلق فرص عمل كثيرة للسعوديين، وظلّت العمالة الوافدة تتدفق بشكل مكثف عاماً بعد عام.

ومن بعض ما استنتجته الدراسة ما يلي:

1- عندما وضعت الحكومة سياسات السعودة في عام 1975، فإنها لم تُدرك الصعوبات والمشاكل الحقيقية التي تمنع القطاع الخاص من توظيف السعوديين أو عدم رغبة السعوديين في العمل بالقطاع الخاص بسبب المزايا العديدة التي يحصل عليها الموظف في القطاع العام وعدم محاسبته أو الاستغناء عنه.

2- ارتفاع تكلفة العمالة السعودية مقارنة بالعمالة الوافدة، وضعف إنتاجيتها وانعدام ثقافة العمل لديها وانتشار ثقافة العيب بينها، مقارنة بالعمالة الوافدة، وقد أدى ذلك إلى ضعف استجابة القطاع الخاص لتنفيذ توجهات السعودة، وهي نفس المشاكل التي واجهت كل الحكومات الخليجية.

3- التركيز على الكم لم يلقَ قبولًا من المواطنين أو الشركات، وكانت النتيجة تراكم البطالة مثل سائر بلدان مجلس التعاون ومن ضمنها عُمان.

4- سياسات السعودة كانت ناتجة كرد فعل وقرار من جهة واحدة، وبدون إجراء أي حوار أو تنسيق مع القطاع الخاص، ودون وجود دراسات عن طبيعة سوق العمل السعودي والتشوهات الموجودة فيه وفي قانون العمل والنظامين التعليمي والتدريبي. وكل ذلك أدى إلى تذمر كل الأطراف واللجوء إلى التحايل على قرارات السعودة.

5- عدم دقة بيانات سوق العمل، جعل تقييم مستوى الإنجازات مدار جدل مستمر.

6- قانون العمل يقدِّم حماية أكثر من اللازم للعامل السعودي والذي أثر سلبًا على إنتاجيته وعلى أخلاقيات العمل لديه، وأصبح مُعرقلًا لتوفير الوظائف.

وعلى ضوء ذلك قامت السعودية بإجراء إصلاحات كثيرة في قانون العمل، شملت إعطاء الشركات حق الاستغناء عن الموظفين في حالات عديدة. وتضمنت الإصلاحات تهيئة العامل للدخول إلى سوق العمل عن طريق إعادة تدريبه وصقله بالمهارات المطلوبة ولمدد معقولة، وزرع أخلاقيات العمل لديه وتحسين إنتاجيته وتعليمه اللغة الإنجليزية. كما أطلقت برامج دعم المنشآت التي تساهم في المحافظة على وظائف السعوديين وتأسيس صندوق لدعم الوظائف، لكن ليس بالفرض أو تحديد نسب سعودة غير واقعية، وتمويل برامج تتواءم مع احتياجات سوق العمل وإجراء دراسات مستمرة لمعالجة معوقات التوظيف، وتقديم الإعانات لتأهيل القوى العاملة الوطنية، ويتحمل الصندوق جزءًا كبيرًا من التكاليف، بينما تتحمل الشركة الراغبة في إعادة تاهيل الموظف نسبة من المبلغ، كما يتحمل الموظف نفسه نسبة تبلغ 30% من الزيادة التي يحصلها في الراتب الشهري. الصندوق يساعد أيضًا المؤسسات على توسعة أنشطتها لتوليد مزيد من فرص العمل، وتقديم المشورة الفنية والإدارية لمنشآت تأهيل الموظفين.

لذلك كان صندوق الموارد البشرية إحدى الآليات الفاعلة للمساهمة في توفير الكوادر السعودية المؤهلة بالعلم والمدربة تدريبًا جيدًا.

وحققت السياسات الجديدة نجاحات مستمرة وتم إيجاد عشرات الألوف من فرص العمل. وأول هدف للحكومة كان تخفيض معدلات البطالة إلى 7%، كما ربطت مخرجات التعليم باحتياجات السوق. إلى جانب أن "رؤية 2030" نفسها تستهدف توفير أكثر من مليون فرصة عمل إضافية حتى نهاية عام 2030. ويعتقد المسؤولون أن الرقم المستهدف لم ياتِ من الفراغ، وإنما بناءً على خطط تنموية اقتصادية طموحة، ما يجعله قابلًا للتحقيق بحلول عام 2030. كما أدركت صعوبة خلق فرص عمل كبيرة من دون إنشاء مشاريع كبيرة ومستمرة.

العنصر الآخر المهم هو انخراط المرأة في سوق العمل وتوسيع مجالاته.

الحكومة السعودية سعت إلى توطين الوظائف في جميع المهن عن طريق تجنب أخطاء الماضي، وبالفعل تمكنت على الرغم من الكثير من التحديات والصعاب أن تحقق تقدمًا تدريجيًا. وبدأت بتوطين الأنشطة التي لا تحتاج إلى مهارات كبيرة مثل بيع القهوة والشاي والعسل والسكر والبهارات وبيع الكتب والقرطاسية واللحم والأسماك. وتمكنت على الرغم من الكثير من التحديات والصعاب من تحقيق تقدم تدريجي. ويتوقع أن يسهم قرار توطين الوظائف في هذه النشاطات إلى خلق أكثر من 50 ألف فرصة عمل للجنسين، وتقليل نسبة العمالة الوافدة فيها بنسبة 50%. وارتفعت كذلك نسب توطين الوظائف في مجالات بيع السيارات والدراجات، والأثاث المكتبي والمنزلي، والأجهزة المنزلية، ومواد التنظيف والملابس، إضافة إلى القطاعات الطبية، والمحاسبة والمحاماة، والاتصالات، وتقنية المعلومات، والصناعة والاستشارات الهندسية، والتجارة والسياحة، والنقل والمقاولات، واستثنت تلك المهن التي تتطلب خبرة طويلة ودقيقة.

وأدت العملية إلى توفير وظائف لعشرات الآلاف من السعوديين، كما أجرت دراسات لاستشراف العرض والطلب في سوق العمل للسنوات القادمة، وتأهيل كوادر وطنية سعودية تتناسب قدراتها مع احتياجات السوق المتغيرة.

وتبلغ أعداد القوى العاملة في المملكة نحو 9 ملايين فرد، أي ما نسبته 49.9% من إجمالي عدد السكان. وتتركز قوى العمل الوافدة في قطاع الإنتاج والتشييد بنسبة 41.07%، ثم قطاع الخدمات، وتأتي المهن الإدارية الأدنى بنسبة 1.14%. كما تقوم بإيجاد تعديلات في أنظمة العمل لتكون مرنة وصديقة للاستثمارات لخلق مزيد من فرص العمل. وتسعى الحكومة للوصول إلى نسبة بطالة لا تتجاوز 7% بحلول عام 2030. وقد تراجع معدل البطالة إلى 10.1% في الربع الأول من 2022، نزولا من 11% في الربع الأخير من 2021. وارتفعت نسبة توطين الوظائف في القطاع الخاص إلى 22.3% في نهاية العام 2021، مقارنة مع 17.1% قبل بدء الإصلاحات بعام واحد.

أدركت الحكومة السعودية أن تنمية الموارد البشرية ذات أبعاد أربعة؛ فهي: أولًا عملية تعليمية يساهم فيها التعليم العام بوضع حجر الأساس من حيث صقل شخصية الفرد وتزويده بالأسس التعليمية المطلوبة. وثانيًا: عملية تدريبية فنية يتم من خلالها تأطير نشاط الأفراد ضمن قدرات علمية متخصصة، يساهمون في الإنتاج بصورة مباشرة. وثالثًا: عملية تنظيمية إدارية يتم فيها تأهيل الأفراد لإدارة وتنفيذ النشاط بجوانبه المختلفة. وأخيرًا مسألة سلوكية تهدف إلى التأثير في السلوك الاجتماعي للأفراد وتنمية القيم المطلوبة التي تجعل نشاطهم في إنتاج السلع والخدمات متلائما مع الإطار الفكري الذي يعيشون فيه.

غير أن الوصول إلى هذه الأبعاد الأربعة وتحقيق الأهداف المرجوة من خلالها، لا يتم إلّا في إطار بيئي اجتماعي مناسب؛ لكي تأخذ عملية تنمية الموارد البشرية أبعادها بشكل واقعي منسجم مع أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية. علاوة على الإدراك بأن مشكلة البطالة هي لُب مشكلة التنمية المستدامة ولا حلول لها إلّا من خلالها.