الاقتصاد العُماني.. نهضة مضت وأخرى قادمة

 

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

شهِدَ الاقتصاد العُماني خلال العقود الخمسة المنصرمة، تغيُّرات عميقة في تركيبته، صاحبتها قفزات تنموية على مختلف الأصعدة، مُستندًا على القيادة الحكيمة وحصافة إدارة الموارد المتاحة وتسخيرها لبناء مقومات الدولة العصرية، ومدفوعًا بالإيرادات النفطية.

ويمكن تلمس قصة النجاح هذه من خلال المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة؛ فقد نما عدد السكان من حوالي 725 ألف نسمة وناتج محلي إجمالي بالأسعار الجارية عند 100 مليون ريال عُماني فقط في عام 1970؛ ليصل عدد السكان الآن إلى ما يزيد عن 5 ملايين نسمة مع ناتج محلي إجمالي بلغ 44 مليار ريال عُماني في نهاية عام 2022. ويُمكن الفصل هنا بين مرحلتين مُهمتين؛ الأولى من عام 1970 إلى عام 1995، والتي سجل فيها الاقتصاد العُماني نموًا بوتيرة متسارعة جدًا بلغت في المتوسط 7.5%، جرى خلالها وضع لبنات بناء البنية والمقومات الأساسية للدولة الحديثة من مدارس ومستشفيات وأجهزة حكومية في مختلف المجالات ونظام مصرفي وقضائي. والمرحلة الثانية امتدت من عام 1996 إلى عام 2020 (رؤية عُمان 2020)، وقد نما فيها الاقتصاد العُماني بوتيرة جيدة بلغت في المتوسط 3.4%، وتم خلالها استكمال البنى الأساسية ورفع كفاءتها وحققت إنجازات ملموسة وضعتنا بدرجة عالية من الجاهزية للانطلاق إلى آفاق أرحب من التنمية في الحقبة القادمة من مسيرة هذا الوطن العزيز رؤية "عُمان 2040"، والكل يتفق على أن كل حقبة زمنية تختلف في ظروفها وأدواتها.

عُمان اليوم تعيش مرحلة مهمة تتزامن مع ظروف عالمية متسارعة التغيير على مختلف الأصعدة، وتستوجب علينا جميعًا في الداخل، القيام بأدوار مختلفة ومزيدا من الانسجام والتنسيق بين الجميع، وخاصة في الجانب الاستراتيجي لإحداث تغيُّرات جوهرية حتمية في الجوانب المختلفة. وعلى الرغم مما تتحقق من إنجازات في المرحلة الأخيرة، إلّا أنها غير كافية لردم الهوة بين طموحات وتطلعات أفراد المجتمع المستندة على مقومات وفرص محلية عظيمة، وبين الواقع المُتَحقَق. ويستوجب تحقيق القفزات المنشودة، جسارةً في اتخاذ القرارات، وخاصة في الجانب الاقتصادي وعوامل الإنتاج، وأن تترافق مع درجة عالية من التواصل لتبصير كلٍ بدوره؛ فالقراءة المُتأنية للإحصاءات المتوفرة تُشير إلى تغيُّر التحديات وإلزامية تغيُّر الحلول؛ بما يتوافق مع المعطيات الجديدة. فبعد أن كان عدد الباحثين عن عمل في المرحلة الأولى لعمر النهضة بالمئات سنويًا، أصبح بالآلاف في المرحلة الثانية، ومن المتوقع أن يصل إلى ما يقارب 70 ألفًا، يدخلون سوق العمل سنويًا خلال المرحلة المقبلة، وبالتأكيد أن مواصلة إيجاد فرص عمل لهم في الأجهزة والشركات الحكومية ليس هو الخيار الأمثل. ومن جانب آخر، فإن استكمال البُنى الأساسية والتشريعية في السلطنة يُحتِّم تعظيم الاستفادة منها، وإلا لماذا تم استثمار الملايين في الموانئ والطرق والمطارات والأجهزة الأمنية إذا لم تتم الاستفادة منها. وهنا الحديث عن رفع وتيرة الاستغلال وتعظيم الاستفادة مِمَّا تم بناؤه، فما يُستغل بنسبة 20% وحتى 70% يجب أن يُستغل بنسبة 100%، قبل أن يتقادم. والشواهد تقول إن مطاراتنا وأرصفة موانئنا (الدقم مثالًا) غير مستغلة بطريقة مُثلى، وما زال الاقتصاد العُماني يعيش حالة من التقليدية والهدوء؛ فحركة البيع والشراء وتدفق الاستثمار المحلي والأجنبي ما زالت محدودة، وكذلك القوة الشرائية والطلب الكلي ما زال متواضعًا، وهناك حاجة إلى إجراء تغييرات مُهمة في فلسفة الإدارة الاقتصادية والمالية، لإعطاء زخم جديد، والحد من الضبابية ودرجة عدم اليقين التي تُخيِّم على العديد من الجوانب لزيادة الثقة وزيادة درجة الانفتاح.

وعودةً إلى لغة الأرقام والإحصاءات المتوفرة لمختلف المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتي توضح خصائص وسمات مُميِّزة لتطور الاقتصاد العُماني خلال العقود الخمسة المنصرمة، منها الإيجابي والذي يجسّد قصة نجاح، الجميع يفاخر بها، وهي تستند على إنجازات نوعية وكمية واضحة للعيان. إلّا أن دوام الحال من المُحال، والتغيير سُنة كونية، ومن لا يتقدم يتقادم؛ فالخصائص التي فرضتها طبيعة النموذج التنموي في المرحلة المنصرمة تستلزم التغيير. ومن أبرز هذه الخصائص أن تطور الاقتصاد العُماني كغيره من اقتصادات المنطقة استند بشكل مباشر على القطاعات الهيدروكربونية، والتي مكّنت السلطنة من الحصول على إيرادات عامة ساعدتها على الإنفاق بسخاء على تحقيق النقلة النوعية في تركيبة وهيكلة الاقتصاد، ولعبت الحكومة الدور المهيمن وقامت بكل الأدوار: المُشغِّل والمُستثمِر والمُنتِج، وتحديد الأولويات الوطنية، وإن كان ذلك يتناسب مع تلك الفترة، إلّا أنَّ هناك معطيات قد تغيَّرت، وعلى رأسها: التغيير في مستقبل العرض والطلب المرتبط بقطاع النفط والغاز وأنماط وسلوكيات المستهلكين، وكذلك الحاجة الملحة لتعديل تركيبة ونسيج القطاع الخاص والتجارة الخارجية والاستثمار بشقيه المحلي والأجنبي، وفلسفة التعليم الموائم لاحتياجات سوق العمل في القطاع الخاص، علاوة على الأعداد المتزايدة من الباحثين عن العمل والذين تنتظرهم قطاعات الإنتاج والتصنيع والتصدير وهي أعمال ليست في ميدان الحكومة.

والمتتبع لمسار النمو، يجد أن الاقتصاد العُماني يُعاني من حلقة مفقودة تربط النمو الاقتصادي المُحقق في الحقبة الماضية مع دور فاعل للقطاع الخاص؛ فالقفزات التنموية المُتحقَقَة في القطاعات المختلفة لم يصحبها تطور وتعزيز لقدرات شركات القطاع الخاص، الذي ظل معتمدًا على الاستيراد والعمالة متدنية المهارة والمناقصات الحكومية، وقد أدى عدم وجود قطاع خاص ديناميكي إلى الحد من توفير فرص العمل، وضعف نمو المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ومحدودية نمو القطاعات غير النفطية. كما إن هناك نجاحًا محدودًا لصياغة وتنفيذ سياسات عامة فاعلة حتى الآن في جعل وظائف القطاع الخاص أكثر جاذبية.

وفي قراءة فنية لما تحقق، يُمكن تفسير النمو الاقتصادي المتحقق خلال الحقبة المنصرمة بزيادة الاستثمار والعمالة، في حين أن إنتاجية عوامل الإنتاج (Total Factor Productivity) لم تقدم مساهمة كبيرة في النمو الاقتصادي. وبالنظر لمعدل النمو السكاني المرتفع نسبيًا في عُمان، فإن استمرار النمو الحقيقي في دخل الفرد يتطلب نموًا مُستدامًا في الاستثمار المحلي والادخار المحلي، وتحسينًا في إنتاجية العوامل، وتدفقات كبيرة من رأس المال المحلي والأجنبي. كما إن هناك أدوارًا مفقودة للقطاع المصرفي في تمويل قطاعات التنويع الاقتصادي، وتعزيز المُضاعِف الاستثماري، ونشر ثقافة مالية جديدة في المجتمع؛ أفرادًا وشركات، لا سيما وأن السلطنة تعاني من فجوة استثمارية، ويمثل الحصول على تمويل أبرز تحديات ممارسة الأعمال في عُمان، حسب تقرير البنك الدولي الأخير.

وختامًا.. تُشير الأحداث والأزمات الجيوسياسية في أوكرانيا والسودان وغيرها، إلى أنَّ أسعار سلعتنا الاستراتيجية (النفط والغاز) ستظل مُرتفعة على المديين القصير والمتوسط؛ الأمر الذي يُحتِّم علينا تعظيم الاستفادة مما يتحقق من وفورات مالية، من خلال الدفع في ملفات التنويع الاقتصاد، وخلق طاقات إنتاجية، وتعظيم المُكوِّن المحلي؛ وهو ما يستوجب تحولًا ملحوظًا في أدوات التنمية، وتوزيع الأدوار والمسؤوليات. كما إن ثمّة حاجة إلى وضع عُمان أولًا، والبدء في طرح الأسئلة الصعبة ومراقبة ومُتابعة ما ننشده من تحوُّلات، وذلك لن يحدث دون تغيير في أساليب وآليات التنمية التقليدية الحالية، ولا شك أنَّ هناك حاجة ملحة لإنشاء مراكز دراسات اقتصادية استراتيجية، قادرة على قراءة المشهد بعيون مُحايدة من أجل صياغة المستقبل المُبتغى، وتقترح وتقيس أثر سياسات تنموية وتقدم حلولًا عملية؛ فالارتكان إلى المؤشرات الإيجابية لأسعار النفط وانعكاساتها على أوضاع المالية العامة، كان وما زال، هو المُسكِّن الذي فوَّت علينا بناء اقتصاد حقيقي مُستدام في حقب مضت.