لماذا نقرأ وكيف؟!

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

 

عندما تحدثت في مقالي السابق بعنوان لماذا لا نقرأ وردني بعض النقد السلبي، الذي يقلل من أهمية القراءة الحرة، كونها مضيعة للوقت والجهد، وباعتبار أننا لا نحتاج أن نقرأ خارج الإطار الثقافي الذي حُدد لنا، وهذا التفسير غير صادم في واقع نعايشه فنحن نستهلك المعرفة ولا ينتجها إلا القلة، نولي الكماليات والترفيه أهمية كبرى على حساب غذاء العقل والروح.

إن كنت تساءلت عن سبب العزوف عن القرءاة، فإني أرى لازمًا عليّ أن أوضح لماذا علينا أن نقرأ كثيرًا في هذا الزمن؛ فالعقل البشري يحتاج إلى غذاء وتنمية وتطوير حتى يتمكن من التفكير والإنتاج، فالقراءة سلاحنا ضد الجهل والتزييف، وقد ميَّز الخالق الإنسان بنعمة العقل ليس ليكون مستهلكا للمعرفة بل حتى يكون منتجا قادراعلى فهم لغز الحياة، إنها الوسيلة المثلى التي تمكننا من مجابهة التحديات المختلفة، فهي نافذة نطل بها على العالم الواسع.

إن الأمم التي تقرأ هي الأمم القائدة، والتي تتطور وتنهض بعد كل كبوة أقوى من ذي قبل؛ فالقراءة تطرد الجهل والخرافة والتخلف، وترفع من مستوى الوعي. لعلني في هذا الصدد أقتبس مقولة للكاتب عباس محمود العقاد تحدث فيها عن القراءة؛ حيث قال "لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لازداد عمرًا في تقدير الحساب.. وإنما أهوى القراءة لأنَّ عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة. والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب..".

لطالما ارتبط الإبداع بالقراءة والمعرفة، فالعلماء والمخترعون قبل أن يصبحوا منتجين للمعرفة والعلم ويكتشفون ويستكشفون، كانوا قراء شغوفين بالمعرفة والعلم والبحث عن الحقيقة. للقراءة دور كبير في بناء شخصية الفرد وتنميته، وهي مصدر للتعلم تمنح الفرد القدرة على التحليل وفهم الأشياء وربط المسائل ببعضها البعض. إنها تمنح دفعة قوية لتشكيل الشخصية القوية المتزنة، القادرة على المناقشة والتعامل مع المعطيات المختلفة، ناهيك عن دور القراءة في تنمية المهارات اللغوية، أذكر معلمي للغة الفرنسية كان يصر على أن نحنفظ بدفتر صغير في جيوبنا نسجل فيه كل كلمة جديدة ونكتب معناها واستخداماتها، فقد كان يقول إن تعلم اللغة يعتمد على عدد المفردات والجمل التي نحفظها في دفترنا الصغير.

في عصرنا هذا نحتاج إلى القراءة أكثر من أي وقت مضى، فوسائل المعرفة تعددت والغث في المعارف أكثر من السمين، في عالم ينتج في الساعة الواحدة آلاف من المعلومات والبيانات، التي أصبحت متاحة للجميع من الطفل الصغير حتى الشيخ الكبير، وإن كان كبار السن أكثر حكمة ودراية في التعامل مع المعلومات، فإن الطفل بطبعه الفضولي يجبوب فضاءات الافتراضية بحثا عن أي شيء، وكل شيء بالتالي، فإن منحنا هذا الطفل قدرا من المعرفة اللازمة عبر القراءة، للتعامل مع المحتوى المعرفي من كتب أو مقالات، فلن نخشى عليه من الإطلاع.

إن القراءة تبني جيلًا واعيًا منتجًا، قادرًا على مواجهة كافة أشكال الانحراف والانحلال الأخلاقي والفكري، فكلما زاد مستوى الوعي والإدراك يتمكن الفرد من مواجهة الفكر المتطرف وغير السوي.

للقراءة فوائد كثيرة وفقا للدراسات فهي لا تعد غذاءً للعقل فحسب بل وسيلة لتطوير الذات والتواصل مع الثقافات والحضارات الماضية والحاضرة، وهي تحسّن من مدارك العقل والذاكرة وتساعد على التركيز، وتنمي الخيال، وتخفّف من أعراض التوتر والقلق، والاكتئاب كل ذلك يتوقف على ماذا نقرأ من المحتوى. فكما توجد كتب إيجابية هناك الكثير من الإصدارات السلبية التي قد تسبب نتائج عكسية على الفرد، لذلك علينا أن ننتقي ما يتلاءم مع أهدافنا الشخصية من محتوى هادف إيجابي، ينمّي الفرد ويطوره إلى الأفضل.

يقول فرانسيس بيكون "بعضا من الكتب يجب تذوقها، والبعض الآخر يجب بلعها، وبعضها الآخر يجب مضغها وهضمها" فالقراءة وفقا لهذا المفهوم تختلف حسب الهدف المراد تحقيقه، فإن كان الهدف من القراءة زيادة المعرفة، فيجب أن تكون القراءة تحليلية، أما إن كنا نبحث عن معلومة فإنه يمكننا أن نلجأ إلى القراءة السريعة. مع تنوع الكتب والإصدارات المكتوبة والسمعية ليس هناك مبرر أن نتقاعس عن تنمية الفكر والعقل.

كان الكاتب الأمريكي هارولد بلوم أستاذ الأدب والشعر ومؤلف كتاب "ماذا نقرأ ولماذا"، يقرأ يوميًا 1000 صفحة أو أكثر، واستطاع أن يؤلف ما يقارب 40 كتابًا، فقد كان يتمتع بذاكرة بصرية وقدرة على التحليل.

يقول هارولد "إن القراءة الواعية من ملذات الشفاء التي تخلقها العزلة تأخذك إلى صور وأماكن غير مألوفة صور قد تكون عن نفسك أو أصدقائك، إنه الخيال القادر على إطفاء نار الوحدة.نحن نقرأ ليس لأننا غير قادرين على التواصل مع عدد من الناس؛ بل لأن الصداقة بطبيعتها هشّة تنطفىء بعوامل الزمان والمكان... أما وإنني بلغت التاسعة والستين، فإنَّ الأسئلة المطروحة حول القراءة، لماذا نقرأ وماذا أصبحت أساسية أكثر من أي وقت ذي قبل".

لنتخذ من القراءة وسيلة لبناء الذات الواعية التي لا تكل من خوض تجربة القراءة من أجل المعرفة.. إنّ فضاءات القراءة كبيرة وواسعة أقلها تنمية مهارة الكتابة، ولا أجد جليسًا خيرا من كتاب.