الاتجاه الوطنيّ والنزعة الإنسانية في شعر حمد الطائيّ

 

ناصر أبو عون

لقد كانت تجربة الشيخ حمد بن عيسى الطائي الشعرية الملجأ والخيمة التي ينفرد بها مع ذاته الشاعرة؛ انعتاق من الواقع بكل تماثلاته، وانفلات من أسر الحياة بكل خيباتها، وعزلة ومنفى اختياري يجلس فيه تحت قبّة الفكر الممزوج بالوجدان، يستظل فيها تحت شجرة المعنى، ويطفيء فيها فورة الشعور المتدفقة، يجمع بلوراتها، وينظم حبّاتها المتلألة في سلك الفكرة، ويعلّقها على عمود الموسيقى، فتبدو رؤية فنية محكمة السبك؛ فقد أغرق في استقصاء الحالات الإنسانية، والغوص في بحرها باحثا عن الكنز المفقود في نفس كل إنسان كتب عنه، أو موقف إنسانيّ التقطته كاميرا روحه الشاعرة وغرس سن قلمه في محبرة القلب ليسرد مكنوناته، ويسجّل مفرداته.

وهذا التوجّه يقودنا إلى البحث عن تمظهرات السؤال الفلسفي في قصائد حمد الطائي حيث عثرنا على مجموعة من الأسئلة الفلسفية ارتبطت في وجودها داخل ديوانه بمراثيه العائلية، وفي قصائد مختارة، خطّها بقلمه تحت عصف الموت الذي ألمَّ بأحبته، وشجّ سويداء قلبه حزنا على أخوته، واوقد نيران المراثي في مواجده.

"والسؤال الفلسفي في الشعر يدفع المتلقي إلى التأويل للوقوف على الدلالة العميقة له، إذ يمتلك التأويل ميزات عدة؛ أهمها تعدد الفهم وإيمانه بالاختلاف ونفيه للمطابقة"(1). "فالتأويل يقوم في أساسه على افتراض أن الكلام له معنيان؛ أحدهما هو المعنى الظاهر، والآخر هو المعنى الخفي أو المستتر أو الباطن، مما يعني أن اللغة لها أيضا وظيفتان إحدهمهما هي التعبير، والأخرى وظيفة رمزية تتطلب ما ترمي إليه"(2). فهذه قصيدته: (يا قلب بالفراق وحشتنا) التي نظمها في (رثاء أخيه المرحوم صالح بن عيسى الطائي)، الذي وافته المنية إثر نوبة قلبية يوم الجمعة الموافق 28/09/1990م. ويأتي فيها السؤال حول فلسفة الموت وجدوى الحياة، وتنطوي على معانٍ ثرّة تقبل التأويل الذي تتعدد معانيه ما بين المقصود الظاهر، والرمزي الخفي، وتحيل القارئ إلى البحث عن المرامي والغايات من وراء الموت، وما يتضمنه من معان جديدة للحياة والخلود.. يقول الشاعر: [قالوا: أتبكيه بدمع هاطل // ومقامه في الخلد طاب مآل؟!] [فأجبتهم: نبكي شتاتا بعده // في الأهل والأحباب، فهو مثال].

الموت يضيء البصيرة

لقد أضاء الموت بصيرة الشاعر الفلسفية، فجاء السؤال الفلسفي تعبيرا عن الحالة الشعورية التي غلّفت قصائده الرثائية بغلالة شفيفة يستوضح الرائي من ورائها تجليات الحياة في قلب الموت، حيث تأطرت بخبرة جمالية بلغت ذروتها في الشعور، وأضاءت مصابيح التأمل في المناطق المعتمة من الرؤى؛ "فالسؤال عن الموت يعد ظاهرة إنسانية وُجِدت مع وجود الكون والحياة، وهي ظاهرة شكلت هاجسا، فمنهم من اتخذها موضوعا ارتبط بالنزعة الذاتية الحزينة... حتى عُدّت سمة رومانسية، ومنهم من اتخذها موضوعا ارتبط بمفهوم النضال والثورة والشهادة والانبعاث، ومنهم من ارتبط الموت عندهم بالغربة" (3).

غير أن الموت ارتبط لدى شاعرنا بحالة من "الاغتراب Entfremdung" وتحديدًا (الاغتراب النفسيpsychological alienation)‏، وارتفعت حدتها إثر وفاة أخيه القاضي الشيخ هاشم بن عيسى الطائي والذي كان يرى فيه صورة أبيه، وعمود الخيمة الذي تستند إليه العائلة والأسرة النووية داخل أفخاذ وبطون القبيلة الطائية الكبرى، واستبد به هذا الشعور الطاغي الممض بالحزن فترة زمنية أطول انعكس أثرها على شعره ومنهاج حياته.

[بدر المعارف قد علاه محاق // وكذا البدور تألق فصعاق] [ما كان هاشم غير بدر معارف // وبه تسامى العلم والأخلاق]، [ لهفي عليه في الثرى جثمانه // من بعد أن دانت له الأعناق] [الشرع يبكيه بدمع هاطل // وبمثله في الدين عزّ لحاق] [لهفي على المحتاج بعدك من له // فلبحر فضلك إنه توّاق].

وإن كانت الأبيات السابقة تضج بالحكمة، إلا أنها تشي لنا بحالة الاغتراب النفسي التي ضربت أطنابها حول الشاعر، وهي حالة نفسية "تنطوي على شعور الفرد بانفصاله عن ذاته" و"هو نمط من التجربة يرى الفرد فيه نفسه فيها كما لوكانت غربته عنه ويوجد طريقان لهذا الفهم للاغتراب عن النفس؛ أولهما: انفصال الفرد عن ظرف إنسانيّ مثاليّ، والثاني: هو افتقاد المغزى الذاتي والجوهري للعمل الذي يؤديه الإنسان"(4).

المواطنة والحكمة في شعره

إن مطالعة ديوان الشيخ حمد الطائي برؤية ناقدة، وروحٍ عاشقة، ووعيٍ نفاذ يسبر أغوار النصوص على مهل، ويجيل النظر في المعاني بتؤدة وطول تأملٍ لا يداخله ملل ويبحر مع الشاعر في دهاليز التاريخ العُماني الحديث منذ خمسينيات القرن العشرين إلى أعتاب العقد الأخير؛ ستقع عينه على قصائد تدخل تحت مصطلح (التاريخ الموازي) للتاريخ الرسمي، وسيغوص في متون بعض المقطوعات الشعرية التي يمكن تصنيفها تحت باب (أدب الرسائل الإخوانية) تارة، وقصائد الاستنهاض الوطني والقوميّ تارة أخرى، غير أن عمود الخيمة الشعرية التي يجلس تحتها الشاعر الطائي يُصنّفُ بأنه شعر وطنيٌّ خالص يوثّق لمراحل التحرر والنهضة العمانية المعاصرة، ويرتكز إلى تجربة شعرية صادقة مع ذاتها ومتوافقة مع واقعها، وتعتز بتاريخها، وتعيش حاضرها بكل تجلياته.

فإذا ما عرّجنا على أبيات الحكمة في شعره؛ فتراها جواهر في جبين القصيدة، وملاحة تزهو بها الكلمات من مبتدأ الشطر إلى القافية، ومضرب أمثال اقتطعها الشاعر من لحم التجارب التي ألمّت به، ودُررا كريمة صاغها من بنات أفكاره، ودماءًا أجراها في شرايين شعره روحا فياضة بالمعاني الزاخرة، لم يصغها على نموذج سابق، ولم يقلّد فيها شعراء أهل زمانه ولا التالدين من شعراء العربية الزاهرين. اقرأ له هذه الأبيات لتدرك البراعة التي يمتاز بها في إتقان السبك، والخبرة التي يستعين بها في نشدان المعنى وإجرائه مجرى المثل العربيّ: [وبمهجتي نار يزيد ضرامها // وبي الحوادث ثوبها يتجدد] [ يا دهر رفقك بالكرام أسمتهم // ما زلت تفني جمعهم وتبدد]، [ إن كان بعد العسر يعقبنا غنى // فمتى ترى يا دهر زرعك يحصد].

وإذا ما ألقينا بإطلالة متأنية على مفردة الوطن والمواطنة، بلفظها حينا، وبمعانيها، ودلالاتها، ومراميها وتأويلاتها تارات متوالية في شعر الشاعر الراحل، ستقع عين محبتك على بؤر جمالية تتفصّد من عرق جبينه، وتنزُّ من سنِّ قلمه، وتتقاطر من قلبٍ عصرتْ مهجته تقلباتُ الحياة، وصراعات السياسة، واختلاج الرؤى الموّارة في نفس لا تستكين.. (5). فإذا ما قرأتَ الأبيات التالية تبدّت لك الصورة الشعرية حاضنة لمشاعره الثائرة وفلجا عمانيا لا ينقطع جريانه، ولا تتكدر أمواهه، وتغيض عيونه؛ بل يفيض بالوطنية المتدفقة من منابع أرومته العمانية الخالصة، وفخارا لا ينفك عن ملامح شخصيته المعتدّة بتاريخ حضارتها المتجذر في أعماق التاريخ:

[كأني وأكليل العلى فوق مفرقي // مليك سما بالتاج وهو فريده] [لئن كان تاج الملك رصع جوهرا // فإن بتاجي المجد أثمر عوده] [ كأني وأكليل العلى فوق مفرقي // فإن بتاجي المجد أثمر عوده].

صورة المواطن العماني

فالوطن والمواطنة هنا مصطلحات وجمل شعرية تتناثر كالنجوم المتلألئة في شعر الشيخ حمد الطائي لا يخبو ضؤها، بل يسقط على قلب الشاعر فينعكس أشعة تضيء ظلمات الروح وتستنهض الهمم، وعابرة للمذهبيّة السائلة، وتعلو فوق الطائفية، وتدير ظهرها للإثنيات وتناحر الأعراق، وتضحي بخراف الخلافات القبلية على مذبح الحبّ، وتنحاز للعروبة انحياز الأم لولدها، وإغماضة الأب لهفوات صغاره، وتأتي قصائده على شكل نداءات صارخة لإيقاظ الهمم، وإلهاب الوجدان، واستنهاض الأمة من رقدتها، وهزّ شجرة عطائها الذي لا ينضب.. تأمل معنا هذه الأبيات لتكتشف شخصية الشاعر الملاصقة لشخصية وطنه فصورة العمانيّ الأبيّ مطبوعة في سمته ومحياه غير مستكينة وتأبى الضيم، وتطاول غيرها من الحضارات عزّة وأنفةً ولا ترضى الدنيّة في دينها ولا دنياها.

[أبني عُمان إلى العلا جدوا الطلب // ودعوا التفاخر بالجدود وبالحسب]، [وامضوا إلى أعمالكم ببسالة // وامضوا إلى أعمالكم ببسالة] [ وخذوا من التاريخ سيرة قومكم // فيها تسودون الأعاجم والعرب].

إنّ الوطن في قصائد الشاعر الراحل لا يعترف بحدود الجغرافيا الصماء، ويمزق الأسلاك الشائكة المنصوبة كفخاخ على طول المسافة بين ذوي القربى والأصهار بسيف الحب والحنين، ويعقد حبل الله في عروة وثقى تنتظم فيها الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج بنياط القلب، ويرى في الخرائط والتأشيرات والأختام الرسمية حجر عثرة أمام وحدة الأمة وبدعة لا تُغتفر للسائرين في ركاباها نياما ومعصوبي الأعين. في هذا السياق يقول الشاعر: [عزّ الزمان بأن يغير حالتي // فكأنني في المنار الفرقد] [ ته يا زمان فحسب يومك وصمة // إن الكريم الحر فيه مشرد] [ لا أرتضي ذلا بقرب عشيرتي] [ بل أبتغي عزا يشط ويبعد] [ فلسوف أقتحم البحار مغامرا // حتى أنال من العلا ما أنشد].

وقديما ورد في الأسفار المتناقلة كتابة وشفاهية عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه أن (الوطن حيث المسرَّات)، والوطن في أدبيات الطائي ذاكرة حية (لا تفنى ولا تستحدث من العدم)، دم وروح يتلظى في جسد عابر للمكان والزمان؛ وقيمة رعوية تسبح في سديم العروبة من المحيط إلى الخليج لا يتهيّب الاغتراب، يمشي الهوينى على أديم نابض بالحياة وطأت ثراه أقدام الأجداد من آدم إلى قيام الساعة.. وهذا مقطع من قصيدته للأديب الموسوعي عبد الله الطائي أحد وزراء أول حكومة عُمانية في مطلع عصر النهضة المباركة يتحدث عن هجراته المتعددة سواحا في بلاد الله ومدافعا عن القيم العربية والعمانية الأصيلة، وداعيا إلى المواطنة الخالصة. [كعبد الله من أضحى بحقٍ // رفيع الشأن منعدم المثيل]، [رأى الأوطان فيها كل حر // مهانا والكرامة للدخيل]، [فخاض بحارها وطوى البراري // لينهل منهل المجد الأثيل]، [وقال عُمان: عنك ألا فإني // أسلي النفس بالصبر الجميل]، [وقال عُمان: عنك ألا فإني // أسلي النفس بالصبر الجميل]، [كريم أريحيّ قد نماه // أسلي النفس بالصبر الجميل]، [كريم أريحيّ قد نماه // إلى العليا سليل عن سليل].

تكامل القومي والإنساني

وعلى صعيد آخر لانجد تعارضا ولا تناقضا بين (الأدب القومي، والأدب الإنساني) في سياق التجربة الشعرية لدى الشاعر حمد الطائي، وهو ما يجلي لنا مدى اتساع أفقه، وبحبوحة رؤيته الثقافية المنفتحة على سائر الأصعدة، ولإيمانه بالأخوة في الدم والعرق ووحدة الجغرافيا واندماجها في وحدة العقيدة الإسلامية من المحيط إلى الخليج. فهذي قصيدة بعنوان: (نفسي فداؤك يا عمان) أنشدها في العاصمة الدانمركية كوبنهاغن بتاريخ 22/09/1985 يقول فيها: [قد كنت للتوحيد رائد وحدة // كل القبائل حولها تتجمع]، [فتبددت حجب الظلام بسالم(6) // عن نصر دين الحق لا يتزعزع]، [باعوا النفوس رخيصة فتقشعت // سحب الضلال وحلّ ما نتوقع]، [إن تنصروا الرحمن يشدد أزركم // ولكم من الأخرى المقام الأرفع]، [نفسي فداؤك يا عمان فإنني // في ذكر تاريخ الأئمة مولع]، [جعلوا الجهاد طريق مجد حياتهم // منذ الجلندى(7) شعبهم لا يركع]، [حملوا لواء الدين من نزوى إلى"دار السلام"(8)بنور عدل يسطع]، [أواه يا وطني الحبيب فإنني // أشتاق فيك قوم أبدعوا]، [رفعوا لواءك بالعدالة والتقى // فلك الفخار بما عليه أجمعو]، [إني وإن قصرت عن أفعالهم // لكنني تاريخهم أتتبع]، [شيم الأولى هم أصل دوحة موطني // والأصل دوما تفتديه الأفرع].

و"من دلائل إنسانية الأدب- قوميًا كان أم غير قوميّ- تلك القيم الإنسانية المشتركة كالحب والصداقة والتضحية والإيثار والوفاء وكره الظلم والنفور من الشر، وحب الجمال، وهذا يلمح إلى عدم التناقض بين الأدب القومي والأدب الإنساني، وليس بالضرورة أن يكون الأدب إما قوميا أو إنسانيا، فقد يكون الأدب قوميا وإنسانيا في الوقت نفسه، وما الفرق بينهما في هذه الحالة إلى اتساع الأفق وبعد المدى الاجتماعي لتجربة الشاعر" (9). يقول الشاعر في قصيدة له بعنوان: تحية من أرض مازن(10). وهي رسالة بعث بها إلى الشاعر علي حسن (11).

[الله أكبر قد محوت المنكرا // وأزلت شرا كاد أن يتفجرا]، [إن العمانيين منذ المصطفى // للدين كانوا دائما أُسد الشرا]، [قد خاب ناشر سوأة في حقهم // وليحيي شعر مجدهم قد أشهرا]، [أسفي على الإسلام من نكساته // فغدا العدو بحاله مستبشرا]، [حرب الخليج بشرها ودمارها // جعلت فلسطينا تعاني الأكثرا].

اتحاد الأنا والـ"نحن"

ومن خلال سطوة النزعة القومية في نفسه يحاول الشاعر حمد الطائي كثيرا التفلّت من إسار (الأنا) المحلية الضيقة إلى (أنا= نحن) العروبية والإسلامية والسير في اتجاه قومي واسع الأفق، منفتح على العالم مرتديا تراثه المادي والمعنوي، ومتحدا به ومتفاعل مع مفرداته، سائرا في اتجاه الاتحاد بين (الأنا) و(الأنت) في محاولة دؤوبة للانفكاك من من نطاق الذات.[قف حيّه بطلا عظيم الشان // جعل الكفاح طريقه لعُمان]، [في شعره الثوريّ خلّد ذكره // فاقرأ تجد حربا بغير سنان]، [لا غرو إن جعل القريض حسامه // فقد اقتفى الآثار من "حسّان"]سيظل عبدالله رائد وحدة // لبني العروبة طيلة الأزمان]، [هزم الطغاة بشعر "فجر زاحف" // فتطايروا كالعهن والأوثان].

إن (أنا) الشاعر تسير في الاتجاه نحو الآخر "باحثة عن جو تسوده الحياة المشتركة والتجارب الفعّالة، وحينما تجد (الأنا) في ظل الآخر قيما وأفكارا تمثل نقطة تلاق بين (الأنا) و(الأنت) تشعر أنّ وجودها قد تضاعف، وأنها بمقدار ما يزداد فيها الإحساس بالتكافؤ النفسي مع (الأنت)، يزداد شعورها بأنها هي ذات أخرى، تقوم بتقوية تمسكها في الوجود" (12).

لقد كان الشاعر حمد الطائي عروبيًا حتى العظيم، وإسلاميًا حد اليقين، لذا كان على اطلاع دائم، لا يكل ولا يملّ؛ بل يضع الصداقة العربية موضع أخوة الدم والنسب في حقوقها وواجباتها، ويشدّ أوصال التآخي العربي بعروة وثقى لا نفصام لها، وديدنه الوحدة العربية في حله وترحاله، ويقطع الفيافي، ويسير إلى حاملي لواءها، ويصادق أعلامها، ويحتفي بروادها، ولا ينقطع عن المناداة بها. ففي قصيدة له بعنوان: (شوقي إلى الأقصى يزيد ضراوة)، كتبها في مسقط بتاريخ 02/05/1993 بمناسبة الذكرى الأربعين لتولي الملك حسين مقاليد الحكم في الأردن؛ نقرأ له:[أكرم به من عاهل مقدام // حمل اللوا للعرب والإسلام]، [ورث الخلافة كابرا عن كابرا // وبه تسامت في أعز مقام]، [من آل هاشم نخبة الشم الأولى // فبه نفاخر دونما إحجام]، [وبه فلسطين تعود لأهلها // من غاصبيها طغمة الإجرام]، [شوقي إلىالأقصى يزيد ضراوة // بجهوده نشدو مدى الأيام]، [إني وإن قصرت في إطرائه // ففعاله تزهو على الأعلام].

الصديق امتداد للذات

ومن النص السابق نكتشف أن الشاعر "يرى في الصديق امتدادا لوجود الذات، ومضاعفة لهذا الوجود، وفي الوقت نفسه، كان الصديق السيء يمثل عبئا على الحياة، ولعل الشاعر قد وجد في الندامى عالما يندغم مع وجود الذات، لكونهم يلتقون مع رغباتها وأفكارها التقاءً كبيرا، ويشكل فقدانهم لفاعلية الحياة، ولقدرة الذات على الامتداد في الذوات الأخرى، فبرز موت بعض نداماه كأنه موت للذات"(13). وهذا المعنى الأخير يأخذنا إلى التفاعل مع قصيدة له تحت عنوان: (الشرع يبكيه بدمع هاطل) التي نظمها في رثاء أخيه المرحوم الشيخ القاضي هاشم بن عيسى الطائي الذي اختاره الله إلى جواره صباح يوم الخميس 31/01/1991 ويقول في مطلعها:[بدر المعارف قد علاه محاق // وكذا البدور تألق فصعاق]، [ما كان هاشم غير بدر معارف // وبه تسامى العلم والأخلاق]، [لهفي عليه في الثرى جثمانه // من بعد أن دانت له الأعناق]، [الشرع يبكيه بدمع هاطل // وبمثله في الدين عزّ لحاق].

وهذا يحيلنا إلى التوافق مع قول إبراهيم أحمد ملحم"وأما الممدوح(أخوه القاضي الشيخ هاشم)؛ فقد نظر إليه الشاعر بوصفه ملاذا له، ومستقبلا خصيبا، يجنبه ضوائق الحياة، ويعوضه عما يستلبه الزمن منه، فأعلى من وجوده. ولاشك في أنّ هذا الإعلاء كان قائما على حساب (الأنا)؛ إذا يتناقص حجمها بسبب إعلائها المتزايد من صورة الممدوح، وقد يكون ذلك التناقص مذكرا بالموت والانسحاق أمام تعالي صورة الممدوح، وإن كانت الرغبة في عطاء الممدوح (الدعم المعنوي الذي كان يلقاه من مساندة أخيه هاشم له) تعمل على إيجاد نوع من التوازن بين الحياة والشعور بالموت"(14).

..........

الإحالات والإشارات والمصادر:

(1) تمظهرات السؤال الفلسفي في النص الشعري، د.إسراء حسين جابر، ود. صفاء عبد الحفيظ، مجلة رؤى فكرية – مخبر الدراسات اللغوية والأدبية 2017– جامعة سوق أهراس، ص: 62، 61.

(2) التأويل والظاهرة الاجتماعية، مجلة التسامح، مسقط، العدد: 11، 2005، ص:23

(3) تمظهرات السؤال الفلسفي في النص الشعري، مرجع سابق، ص: 70

(4) الاغتراب اصطلاحا ومفهوما وواقعا، قيس النوري، مجلة عالم الفكر، المجلد العاشر، العدد الأول، ص: 19، 18.

(5) صورة الوطن والمواطنة في شعر الشيخ حمد الطائي، ناصر أبوعون، جريدة الرؤية العمانية، 19 يناير 2022، https://alroya.om/post/294825/

(6) هو الإمام العادل، الشيخ سالم بن راشد بن سليمان بن عامر بن عبد الله بن مسعود بن سالم بن محمد بن سعيد بن سالم الخروصي، ولد ببلدة مشايق من قرى الباطنة في سلطنة عمان سنة 1301 هـ.

(7) الجلندى بن مسعود الجلنداني الأزدي إمام عمَان وعظيم الأزد فيها. وهو الّذي قتل شيبان بن عبد العزيز الصفري. وكانت عمان أشبه بالمقاطعة المستقلة في أيام بني أمية، فلما استولى بنو العباس أرسل (أبو العباس) إليه خازم بن خزيمة التميمي في جيش لإخضاع الاخوارج، فوقعت معركة جلفار الثانية فدحره خازم وقتل معه نحو عشرة آلاف من أصحابه وذالك في سنة 134 هـ ودخلت عمان في سيطرة الدولة العباسية.(انظر: تاريخ أبن كثير ص 132/5- تاريخ اليعقوبي).

(8) دار السلام هي العاصمة السابقة لدولة تنزانيا وتقع على الساحل الشرقي للبلاد المطل على المحيط الهندي، وقد استقر فيها الكثير من التجار العمانيين والعرب وتخالطوا مع سكانها، وتعلموا لغتهم البانتو، فيما علموهم اللغة العربية، ومع الوقت اندمجت اللغتان لتنبثق عنهما اللغة السواحيلية. وقد هاجر العرب إلى دار السلام منذ العصر الأموي، واستوطنوها وترددو إليها للتجارة بالبضائع بين شبه الجزيرة العربية وشرق إفريقيا.

(9) النزعة الإنسانية في الشعر المعاصر في فلسطين والأردن (2000- 2010)، د. أنور الشعر 2016

(10) مَازن بن غضوبة بن سبيعة بن شماس بن حيان بن أبي بشر بن سعد نبهان بن عمرو بن الغوث بن طئ. وهو صحابي جليل، وأول من أسلم من أهل عمان، وقد أسلم في السنة السادسة للهجرة بعد مقابلته للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة، ويُذكر أن مَازن من قرية سمائل، وعمل عند عودته من المدينة المنورة على تعليم أهل قرية أصول الإسلام، وأهدى العديد من الأشخاص إلى دين الحق، بالإضافة إلى ذلك فقد بنى مسجد المضمار الذي يعد أول مسجد تم بناؤه في عمان.

(11) هو الشاعر علي حسن أبوالعلاء الوكيل المساعد لإدارة مكة المكرمة وقد أنشد الطائي فيه هذه القصيدة بعد بعد مطالعته لقصيدة أبوالعلاء العصماء المنشورة بجريدة الوطن العمانية الغرا: العدد 1546 بتاريخ 26/03/1987

(12) إبراهيم أحمد ملحم، جماليات الأنا في الخطاب الشعري، دراسة في شعر بشار بن برد، ص: 155، دار الكندي للنشر والتوزيع، الأردن، ط 1، 2004م

(13) المرجع نفسه، ص: 203

(14) المرجع نفسه، ص: 203