لماذا لا نقرأ؟!

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمي

أجمل منظر تشاهده وأنت في رحلة إلى دولة متقدمة، رؤية الكتاب في يد الصغير قبل الكبير في كل مكان في المواصلات العامة ومحطات القطار والمتنزهات، الكل يخصص وقتًا للقراءة حتى وإن كانت بسرقة دقائق انتظار معدودة، بالرغم من بدائل القراءة المتعددة التي أصبحت تغزو المتاجر والطرقات، إلا أن الكتاب لم يفقد بريقه وظل الشغف موجودًا.

عالم الكتب عالم جميل لا يدركه إلا من حلّق في سماء الحكايات، وعاش معاناة أبطال الروايات، وسبر أسرار الكون وسافر إلى أقاصي العالم وجاب الأماكن. عند قراءة كتاب، فإنك تعبر بوابات الزمان والمكان في رحلات خيالية إلى الأزمنة المختلفة، والإطلاع على تجارب الآخرين دون صعود الطائرة أو ركوب دابة، فتصبح في أمكنة مختلفة، ومع شخصيات عظيمة خاضت معترك الحياة وزوّدتنا برحيق تجاربها. تصبح وأنت تقرأ كتابًا إحدى الشخصيات المعاصرة للرواية، أو مرافقا لبطل أسطوري في مهمته لرد المظالم لأصحابها، فمن لا يحب أن يعيش مُغامرة على قمم جبال الألب أو يصاحب سندبادًا على متن السفينة من بغداد أو يفك لغز جريمة مع أجاثا كريستي.

يقول ‏إنطوني تشيخوف: "حين تُحبط اقرأ بشغف، المهم في الحياة ألا تقف متفرجًا"، وحين تكون وحيدا فإن المؤنس الوحيد الكتاب الذي يشبع به فراغ وقته، فكل كتاب له قدرة على تغيير ما بداخلك ويحرك الأفكار الراكدة وقد يقلب حياتك إلى الأبد، لأنك سترى الأمور بزوايا متعدّدة.

من عجائب العقل البشري أنه لا يفرّق بين قراءة التجربة، وبين تجربة أنت تعيشها فعلا، فالدماغ يتفاعل مع الأحداث بنفس الطريقة. من النادر أن ترى مكتبة عامة في دولة عربية مكتظّة بغير الطلبة والباحثين، قد ترى كتبا على أرففها لم يمسسها بشر وأخرى تئن باحثة عمن يقلب أورقها.

قلّما ترى عربيًا يحمل كتابًا غير الكتب الدراسية، حتى مع التطور التكنولوجي وتوفُّر الكتب الإلكترونية؛ إذ يعيش الإنسان العربي في دوامة الجري وراء لقمة العيش وتوفير المستلزمات الأساسية، ويعتبر القراءة من الأمور الثانوية في أسفل سلم الهوايات، فيقدّم الترفيه عليه كمتنفس عن ضغوطات الحياة، والتي أصبحت مع الوقت من متنفس إلى أولوية ضمن الأولويات. والقراءة العامة لا تحظى بنفس الاهتمام الذي حظي به منصات التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية؛ فالبعض لا يرى في قضاء ساعات على هاتف النقال لمتابعة الشائعات والفضائح ومحتوى غير هادف مضيعة للوقت والصحة، لكنه يعتبر قراءة الكتب إهدارا للمال وفتنة للعقل!

يقول أنيس منصور "إن القراءة علّمتني آداب الاستماع"، ويقول ألبرت آينشتاين "من يرغب في أن يصبح أبناؤه أذكياء عليه بقراءة الحكايات لهم والكثير منها".

ما زلتُ أؤمن بأنَّ حب القراءة يبدأ من الأسرة تحديدًا الوالدين؛ فالطفل يتربى على حب الكتب منذ النشأة الأولى، عندما يقرأ الوالدان له الكتب وهو في المهد أو حتى قبل ذلك في أيام الحمل. فقد أحببتُ القراءة لأن والداي كانا يحرصان على شراء الكتب لنا، وأخذنا إلى المكتبات وتخصيص وقت للقراءة ومناقشة الكتب يوميًا. وأذكر أول كتاب اشتراه لي والدي وكانت موسوعة مصورة عن الكائنات البحرية، أما أول كتاب أشتريته وأنا في عمر السابعة فكانت قصة "سندريلا" من إصدرات وزارة الثقافة العراقية آنذاك؛ فحب القراءة لا يأتي في جو ينبذ حب الإطلاع والحوار، أو يعتبر كل كتاب مشروعا شيطانيا مفسدا للأخلاق.

شكا لي أحد الأصدقاء نفور أبنائه من القراءة بالرغم من سعيه الدؤوب إلى اقتناء الكتب والمجلات، فبادرته بسؤال: هل أنت تقرأ؟ فقال: لا، أنا أشتري لهم الكتب حتى يقرأوها، قلت له: عندما يراك أبناؤك وأنت تقرأ وتخصص لهم وقتًا لمناقشة كتاب، سيتعلمون حب القراءة.

عندما يعتاد العقل البشري على القراءة، فإنه يبدأ في تنظيم عمليات التفكير وتنشيط الذاكرة وتوسعة مراكز الإدراك والإبداع بما يحقق في النهاية المرونة العصبية، كما يسمّيه العلماء فكلما زاد عند الإنسان أصبح الدماغ أكثر قدرة على تعويض الخلايا العصبية التالفة.

عند قراءة كتاب واحد نعتقد أننا نستطيع أن نغيّر العالم بأفكارنا، أما إذا قرأنا كتبا أكثر ندرك أن المعرفة محيط كبير نجهله، والإجابات العميقة للأسئلة تدلّ على عمق القارئ، وتوغله في عالم الكتب. ارتبط التقدّم العلمي والحضاري بالمعرفة وخلاصة العلوم توجد بالكتب، لذلك لا تتقدم الشعوب إن هجروا الكتب واتخذوا منها زينة.

هناك في هذا العالم مهوسون بالكتب يجمعونها، أو يشترونها وقد ينفقون أموالا طائلة على الكتب والمخطوطات، وقد يلجؤون إلى السرقة من المكتبات العامة، كما حدث من الأمريكي ستيفن واينبرغ المصاب بمرض البيلومانيا "هوس الكتب" الذي دفعه شغفه بالكتب إلى سرقة مخطوطات وكتب ثمينة.

فلماذا لا نقرأ؟!

ما زالتْ معدلات القراءة الحرة كدول عربية مجموعة أقل من معدل القراءة، عند أصغر دولة متقدمة.. لماذا لا نجعل من القراءة عادة عند الصغار قبل الكبار؟ لماذا لا تكون هدايانا عبارة عن كتب تثري العقل والروح؟ هل لأننا مكتفون بالمخزون المعرفي الذي لدينا؟ أم خوفا من أن تتغير أفكارنا واكتشاف الحقائق التي كانت غائبة عنا؟ هل لأننا لا نملك إجابات لأسئلة شائكة قد تطفو من القارئ؟ أم لأننا كشعوب نرى في كتب التراث الملاذ المعرفي الأحق بالقراءة والبحث؟ وكل ما عدا ذلك دخيل على العقل لا يستحق الاهتمام.

أسئلة كثيرة تبحث عن إجابات!!