ماجد المرهون
في خاطرةٍ عصريةٍ ذات جمعة لعلها ساعة استجابة، وقبل 18 ساعة من موعد رحلة السفر، أوحت لي كلمة الساعة- ولنا نحن العرب عمومًا- بمفهومين عظيمين في سعتهما الفكرية والتأملية؛ فالأول هو الوقت بتعدد طرق حسابه وتنوع آليات رصده والزمن في إطلاقه العام وتناسُبه مع المكان والحدث وتاريخٍ فات ومستقبلٍ آتٍ، والثاني طبعًا هو يوم القيامة، مع الخيال الخصيب لكل منَّا في تخيله وتحويل غيبياته فيما يشبه خارطة ذهنية إلى واقع وبالطبع تختلف الصورة المتخيلة عند كل شخص، ونحن نحيا بينهما حياةً قصيرة جدًا في عمر الزمن؛ حيث خُلق الإنسان في الدقيقة الأخيرة من الساعة الثانية عشرة ليلًا إذا ما اختزلنا عمر الكون كله في 24 ساعة (بُعثت أنا والساعة كهاتين)، وقرن الرسول الكريم بأصابع يده بين السبابةِ والوسطى.
ومنذ الآذان والإقامة في مسامع الوليد مع فتح دفة كتاب الحياة على مقدمته وصفحته الأولى والتعايش متصل بين محاولة فهم الزمن والسيطرة على الوقت للتحكم به باعتباره كائنا ذا وجود تفاعلي شديد التوغل في أدق تفاصيل حياتنا، وصولاً إلى الصفحات الأخيرة مع صلاة الجنازة قبل إغلاق الدفة الثانية لكتاب الحياة وبين التسليم بقيام الساعة إيمانًا يقينيًا وإن كان غيبًا في علمنا إلا أنه ماضٍ في علم الله.
تمُر الساعاتِ كالسويعاتِ ويُقضى بعضها في غفلةٍ؛ إذ إن الوقت لا يُدار، لكن يفشل معظم الناس في إدارة أنفسهم مع الوقت المُنساب دون تردد أو عودة أو تراكم ولا إمكانية لتخزينه بالمقارنة مع بقية شؤون الحياة، حتى إذا حان موعد الرحلة في تمام الساعة 11 صباحًا أجدني عند التاسعة مُتبلدًا ولم أفعل ما يتوجب على المسافر فعله، ولم أستعد للموعد، ويستبد بي الارتباك مع التهام الهاتف ربع الوقت من الساعتين المتبقيتين دون مردود، وعليّ أن أُعدم هنا وأخلق في المطار في غضون 60 دقيقة بحساباتنا الأرضية، وهو أمر أقرب إلى الاستحالة- إن جاز التعبير- ولو كنت في كوكب عطارد لكان معي متسع من الوقت؛ حيث اليوم هناك يعادل 176 يومًا من أيامنا.
إذن يجب أن يتوقف الزمن الآن؛ لأن العالم كله يتوقف على رحلتي هذه، أو هكذا أعتقد في هذا المشهد، حتى إذا حانت ساعة الصفر انقسمتُ للعبِ عدة أدوار في توضيب التزاماتي وتجهيز حقيبتي في ظل الربكة الداخلية والهدوء الظاهري، ثم الانطلاق إلى المطار بسرعةٍ تؤهلني لكسر حاجز جاذبية السلبيات، وسامح الله أجهزة ضبط السرعة فهي تحول الحركة إلى الأموال، هل الناس شديدو البطء إلى درجة الملل أو قد أكون أنا شديد السرعة إلى درجة الخطر، وما ذنبهم يا ترى لأحمّلهم غلطتي؟! إن ساعة غفلتي خطأت التزامهم وانضباطهم في نظري والذي أفضى بي متأخرًا عن موعدٍ "مهم وعاجل" وكلنا يعتقد أحيانًا أن كل شأنٍ هو مهم وعاجل وإن لم يكن كذلك.
يُغنم من العمل والإنتاج على قدر مايمكن اغتنامه من الوقت حيث إنه رأس المال الحقيقي في العمر القصير للإنسان إذا استطاع كشف سر الاستفادة من "مهم وغير عاجل" في المستوى التقليدي واستثمار التخطيط لتحقيق الأهداف وجدولة المواعيد بأوقات البدء والانتهاء والعمل على نهج الاستمرارية والمثابرة ولو كان قليلًا، وبلاشك أنه أمر غير بسيط كما قد يتبادر للذهن حيث يحول بين معظم الناس وتحقيق ذلك حبسهم لأنفسهم في عاداتٍ يعتقدون أنها صحيحة والحقيقة أن تلك العادات ماهي إلا شقوق صغيرة يتسرب منها الوقت من حيث لايشعرون، وكل يومٍ جديدٍ من الله هو هبةٌ للعمل والكسب والشكر وللعبادة والدعاء والاستغفار.
أنظرُ هنا من الناحية النسبية الظرفية للتوتر الذي وضعت نفسي به وكان بالإمكان تجنبه مع قليل من تنظيم الوقت ولن يختلف أمر التنظيم حتى على كوكب عطارد، وللهدوء الذي يعم معظم المسافرين مع أننا نمضي في نفس المسار وفي المكان والزمان نفسه إلى نفس المصير مع فارق أنهم قدِموا إلى المطار قبلي بساعة وفارق هذه الساعة يعتبر جيدًا بل ممتازًا في مثل هذه الظروف، فاستجمعت فرائصي في ثوانٍ قليلةٍ، لأهنأ بالسفر ذهنيًا إلى بعض الدول والحضارات والثقافات على متن لوحات الإعلانات الترويجية والسياحية أثناء الانتظار في طابور المسافرين البطيء. وتبين لي لاحقًا أن كل الحضارات اهتمت بالزمن وحساب المواقيت بما أتيح لهم من معرفةٍ ساعتئذ، فقد ربطوا الزمان غير الملموس بالمكان وأسقطوا ذلك على حياتهم في كل مناحيها حتى يتسنى لهم إحكام الأداء ومستوى تحقيق الأهداف، وكذلك وضع الخطط والرؤى المستقبلية منذ مصر القديمة التي أولت الوقت عناية خاصة وشجعت حضارتهم على عدم إهداره فيما لا ينفع ويضر الروح، كما ربطته الهندوسية بتعاليم الفيدا فيما يعرف بدورات الخلق والبعث وذهب اليونانيون إلى تفسير الوقت بربطه بظواهر حركة الأجرام السماوية وصولًا إلى عصر النهضة مع نظرية السهم المنطلق لإسحق نيوتن وإلى القفزة التاريخية في العصر الحديث من النسبية العامة والخاصة لآينشتاين.
هنا تنبهت مع رجل ساعةٍ غيري في أرجاء المطار وهو يربت على كتفي طالبًا مني التقدم خطوة إلى الأمام؛ إذ يبدو أن وتيرة السير باتت أكثر سرعةً وإنسيابيةً مع تكرم أحد الموظفين بمبادرة إدارة الأولويات وفتح منفذ جديد لتخليص إجراءات المسافرين، وهنا قفزت إليه غير معقبٍ تاركًا متاعي دون تفكير فقد تفرست في ملامحه الخير وإنه سيعرفني وسيُعجل بإنهاء مُعاناة وقوفي في الانتظار.
يصل القليل من الناس إلى تحقيق مستوى التوازن في تقسيم الوقت والاستفادة من ذلك فائدة شبه كاملة وقد يتفق معظم من حقق ذلك التوازن على البكور (اللهم بارك لأمتي في بكورها) أو كما قال رسولنا الكريم، أي استغلال اليوم من بداياته الأولى مع أن أصعب ما في ساعة الصفر هي الانطلاقة من وضع السكون، والتي تتطلب دفعة كبيرة للطاقة، إلا أنها تصبح اعتيادية في وجود رغبة جادة للتغيير مع الممارسة والاستمرار، وهذا النوع من الناس غالبًا ما ينبذ فكرة "غير مهم وعاجل" حتى لا تسيطر على وعيه أفكار يُعتقد أنها عاجلة وهي في الأصل غير ضرورية أو بالإمكان تأجيلها وهم قلة والأكثر نجاحًا.
كذلك لاحظت أن العاملين في هذا المطار قد حققوا مبدأ التوازن في العمل الجماعي كما تعمل ساعة اليد ميكانيكيًا فاعتلال عمل أحد مسنناتها الكثيرة يؤدي إلى خللٍ في الوقت وربما توقفها كليًا، ولذلك قال لي الموظف بعد ملاحظته لقفزتي الأسدية وبنبرة قاسية: ارجع للطابور؛ فخابت فراستي وخارت فطنتي وساورني شيءٌ من الغضب مع أن موقفه نوع من ممارسة رفض معوقات الاستمرارية، حتى تذكرت قول الله تعالى (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم)، وإن الشرطية هنا تفيد احتمال تحقق المعنى وهو ما تحقق معي بالفعل دون احتمال، فرجعت إلى أخي في الطابور والواقع في محبة تنبيهي بالتقدم كل عدة دقائق وما أطولها علينا وأقصرها على غيرنا من المسافرين الذين سبقونا بساعتين وأنا أشاهدهم مع دخولي قاعة الإنتظار والراحة تغشاهم وهم يشربون القهوة غالية الثمن، والسكينة تحفهم وهم يحلون بأطايب الكعك والبسكوت وتعلو ضحكات بعضهم ونحن المتأخرين ترهقنا قترة وتساوق أيدينا وأصابعنا رعشة القلق؛ ولكن نعزي أنفسنا بأنَّ كل أمر المؤمن خير ولعل التأخير لأمر كان فيه خير لألقي بجسدي أخيرًا على الكرسي منتظراً موعد الإقلاع القريب.
بما أنني لا أحمل كتابًا لأقرأه في ربكة الأحداث المتتالية فإنني أرسخ فكرة "غير مهم وغير عاجل" في بعض الأمور الضرورية وكذلك يفعل معظم العرب في أوقات انتظارهم المهدورة، إلا أن القلم لا يفارقني ولن تستعصي علي الورقة ولا بأس من كتابة شيء في شأن من شؤون المجتمع فكتبت مسهبًا عن القلق المتراكم مع مرور الوقت حيث تملكني قبل سويعة ما يشبه ساعة الفصل مع نظرات الموظف الذي خاب فيه تفرسي، ولكن الملاحظ أن معظمهم مشغول بالهاتف السارق الأكبر للوقت في اعتقاد جازم منهم بأهميته المطلقة وقد أكابر على هذه الحقيقة أحيانًا ليُعلنَ لنا رسميًا عن تأخر موعد الإقلاع ساعة كاملة كشربة الماء ودون ردة فعل صادمة فهو من الأمور المعتادة ولعله خير، ولكن ما صدمني هو نسياني شاحن هاتفي، فهل هذا أيضًا خير؟!
يخطط لمقته من لا يخطط لوقته ويخطط لفشله من لا يخطط لعمله، وإني أعلم ماهو الزمن ما لم يسألني عنه أحد، حتى إذا سألني فإني لا أعلم، وإذا كان ظاهر الوقت بسيطًا، فإن تفسير الظاهرات من أشكل المشكلات.