"يَخْلُ لكم وجه أبيكم"

أنيسة الهوتية

في الآية 9 من سورة يوسف يقول المولى عز وجل: "اقْتلوا يوسف أو اطْرحوه أرْضًا يخْلُ لكمْ وجْه أبيكمْ وتكونوا من بعْده قوْمًا صالحين".

لطالما كنت أكتب دائمًا في منشوراتي على منصات التواصل الاجتماعي ويكون ردي في أي نقاش يُفتح في أي مجلسٍ أمامي على تعليقات من يذمون الأخلاق السيئة لبعض الأجيال التي تأتي من نسل بيتٍ شريفٍ كريمٍ، بأنه نوع من الابتلاء لوالديهم، وأنه ليس كل من مالت نفسه للعمل الطالح الفاسد والفسق لم يجد تربية جيدةً لائقةً! ورغم أني لا أحب أبدًا خوض غمار النقاشات إلّا أن مثل هذه التعليقات تُشعرني بالغيرة على بعض أولياء الأمور الذين أعلم أنهم من أحسن الناس خلقًا، وأن ما أصابهم من أبنائهم هو ابتلاء، وليس قلة تربية ونقص توجيه كما يظن البعض!

البشرية ليست خليقة اليوم، وعلى مر تاريخها رأينا شخصياتٍ عظيمةٍ خرجت من بيوتٍ ضرب الفساد جذورها كالرمة، وأيضًا رأينا شخصياتٍ بائسة خرجت من بيوتٍ الصلاح والإحسان كان جوهرها.. وفي كل الأحوال هو ابتلاء أو بلاء أو حوبة مرتدة والعلم عند الله تعالى.

وهذا كان عن الفساد في الأخلاق الظاهرة للإنسان ممن تستطيع أن تقول عنه إنه إنسان صالح أو طالح فاسد فاسق، أو مؤمن عابد ناسك! لكن هناك بعض أنواع الفساد تكون مخفية لا تظهر للعيان! لا نستطيع جلب أمثلة عنها لاختصارها لأن منها الكثير، ولكننا نستطيع أن نقول إن نوعًا من أنواع هذا الفساد هو ما فعله إخوة يوسف به حين شعروا بالغيرة القاتلة منه وحب أبيهم العظيم له! فقرروا أن يقتلوه أو أن يرموه بعيدًا، وشكلوا حزبًا عليه وفعلوا به ما خططوا له دون خوفٍ من الله السميع العليم الذي من المستحيل أن يكونوا لم يعبدوه ولم يفقهوا مبدأ الحساب والعقاب منه سبحانه، وهم أبناء نبيٍ من أنبياء الله!

وكمثلهم غيرهم من البشر العاديين الذين يأتون من بيوت يُذكر الله فيها آناء الليل وأطراف النهار، وما زالوا يفعلون ما تأمرهم أنفسهم الأمارة بالسوء لإشباع رغباتها دون الالتفات والتفكير في أن كل فعلٍ له ردة فعل وارتداد من خالق الكون بطريقة أو أخرى! وفعلًا، فعلوا ذات الفعلة ولكن بطرائق متعددة، ليس فقط لإزالة أخٍ أو أختٍ من واجهة أبٍ أو أمٍ للحصول على الاهتمام لأنفسهم، ولكنهم فعلوا الفعلة بصورة مختلفة وإن كانت الفكرة هي ذاتها!

فالضُرّة حين تكيد لضرتها حتى يخلو لها وجه زوجها! والموظف حين يكيد لموظفٍ آخر حتى يخلو له وجه مديره! والجار حين يكيد لجاره حتى يخلو له وجه جاره المفضل! والأخت حين تكيد لأختها حتى يخلو لها وجه بقية إخوتها وأخواتها وتبقى هي الأفضل في أعينهم! وغيرهم ممن يكيدون لآخرين، ظنًا منهم أن ذلك سيعيطهم حضورًا أقوى، فبالتالي يجب وضع الظلال على حضور نوره وبهاءه بأي طريقة حتى يخلو لهم "الوجه" الذي يريدون الانفراد به لأنفسهم مهما تعددت صوره! وإن لم يستطيعوا أن يقتلوه أو يطرحوه- أي يبعدوه- بعيدًا عن مكان تواجده وبصره، كما فُعل بيوسف حين رماه إخوته في أرضٍ بعيدة، إلّا أنهم سيخلقون الاستطاعة في طرحه عن قلبه وباله وفكره بالإغلاق عليه تمامًا حتى يكاد لا يراه وهو يراه أمام عينيه!

وأبسط هذه الأمور بالبهتان، والتلفيق، وتشويه صورة الشخص المراد طرحه من فكر الشخص الذي يسعون خلو وجهه لهم.. أو حتى الأشخاص إذا كان هدف الخلو ليس لنيل شخص إنما لرفعة وجاهٍ ومكانةٍ ومنصب..

"وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ".