نحو قفزات في الاستثمار الأجنبي

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

لم يعُد خافيًا حجم وشكل المعركة حامية الوطيس على مستوى العالم، فيما يتعلق بجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، من خلال الشركات متعددة الجنسيات (العالمية)؛ إذ يشير أحدث تقرير صادر عن منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد"، إلى تعافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في عام 2021 إلى مستويات ما قبل جائحة كورونا؛ لتصل إلى 1.58 تريليون دولار، بزيادة قدرها 64 في المائة، مقارنة بعام 2020، بينما تعمل دول العالم على تطويع سياساتها المحلية لتكون أكثر جاذبية للاستثمار الأجنبي.

على مستوى المنطقة، يُمكن رصد التغيُّرات النوعية في سياسات المملكة العربية السعودية وما وضعته من شروط مُسبقة للشركات العالمية، إذا ما أرادت التعامل والاستفادة من المُشتريات أو المشاريع الحكومية، من خلال إلزامها بوجود الفروع الرئيسية للشركات العالمية في المملكة، لكنها في المقابل أطلقت تسهيلات جذرية لتيسير إجراءاتها، منها تسهيلات الحصول على تمويل.

الأمر ذاته ينطوي على إمارة دبي، التي تمرَّست في ابتكار وسائل متطورة لجذب الاستثمارات الأجنبية، فبقوة إعلامها أصبحت دبي الوجهة الأمثل للاستثمار والسياحة في المنطقة.

وهذه الجهود الهائلة لجذب الاستثمار الأجنبي، قد يراها البعض تتناقض مع النظرة الكلاسيكية السائدة في بعض البلدان الأخرى، والتي ما زال يرى بعض المسؤولين فيها أن الاستثمار الأجنبي يُعد أحد صور الاستعمار، وأن الشركات الأجنبية لا تهدف سوى لامتصاص خيرات الشعوب. وأيًّا ما كان الأمر، فإنَّ هذا التهافت على الاستثمار الأجنبي ليس نابعًا من محبةٍ لهذا النوع من الشركات، وإنما رغبة في الاستفادة مما يُصاحبها من توليفة من المزايا والعناصر التي يحتاجها أي اقتصاد؛ سواءً للحصول على رؤوس أموال أو توطين خبرات وتكنولوجيا، أو فتح أسواق جديدة.

ولذلك نؤكد في هذا السياق، أن تدفقات الاستثمارات الأجنبية بين الدول، هي أحد أبرز مظاهر العولمة والانفتاح الاقتصادي. وقد أثبتت الدراسات وجود علاقة طردية بين معدل النمو السنوي في الناتج المحلي الإجمالي، وحجم تدفقات الاستثمار الأجنبي.

وفي السياق المحلي، علينا أن نُصارح أنفسنا بأنه وعلى الرغم مما تبذله الحكومة من جهود ملموسة لتحسين بيئة الأعمال، وما تزخر به السلطنة من مزايا نسبية في مختلف القطاعات، وما يتوافر من بنية أساسية حديثة، وظهور بوادر التحسن التدريجي لمؤشرات الاستثمار الأجنبي، إلا أن حصادنا من جذب شركات الاستثمار الأجنبي ما زال دون المستوى المنشود، ولا يتماشى إطلاقًا مع حجم التسهيلات المُقدمة ولا المزايا الاستراتيجية التي تزخر بها عُمان. والمقارنة مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، تُظهر أن سرعة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى السلطنة أبطأ بدرجة ملحوظة من تلك التي اتجهت إلى المملكة العربية السعودية والبحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر.

ويؤكد ذلك أيضًا انخفاض النصيب النسبي لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى سلطنة عُمان من مجموع التدفقات إلى دول مجلس التعاون الخليجي، من 8% في عام 2002، إلى 6% في عام 2011، ثم 5% في عام 2014، حتى عادت لنفس النسبة عند 8% في عام 2021. وعلاوة على ذلك، فإنَّ تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى السلطنة تُشكِّل أقل من 0.3% من إجمالي التدفقات العالمية للاستثمار الأجنبي في عام 2021، وبذلك تكون السلطنة قد حصلت على جزء ضئيل للغاية من المحفظة العالمية للاستثمار الأجنبي المباشر.

وفيما يتعلق بالتوزيع القطاعي للتدفقات الاستثمارية، ثمَّة فارق واضح في نمط الاستثمارات الأجنبية، ما بين القطاعات الاقتصادية المختلفة وما إذا كانت تخدم أهداف التنويع الاقتصادي أم لا!

وهنا نعود إلى لغة الأرقام؛ إذ تُشير الإحصاءات المتوافرة إلى ارتفاع الأهمية النسبيه للاستثمار الأجنبي في قطاع استخراج النفط من 67% في عام 2002 إلى 69% في عام 2021، إضافة إلى ارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاع الصناعات التحويلية إلى 10%، وقطاع الوساطة المالية إلى 9%؛ أي أن 88% من الاستثمار الأجنبي المباشر في عُمان ينحصر في 3 قطاعات فقط. وهذا مؤشر يدعو إلى بذل جهود أكبر لتوجيه الاستثمار الأجنبي المباشر إلى قطاعات التنويع الاقتصادي، والتركيز على نوعية تلك الاستثمارات.

جغرافيًا.. يُلاحظ التركُّز الكبير في جذب الإستثمارات الأجنبية المباشرة من المملكة المتحدة؛ حيث شكَّلت 42% في عام 2002، و52% في عام 2018، و45% في عام 2021. تلتها الولايات المتحدة الأمريكية بما نسبته 40% في عام 2002، و17% في عام 2018، و16% في 2021. واللافت للنظر هنا أن الاستثمارات من هاتين الدولتين تركّزت في قطاع استخراج النفط. فيما شكّلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الصين أهمية متزايدة؛ إذ بلغت 6% في عام 2021، تلتها دولتا الإمارات العربية المتحدة والكويت بنسبة 5% كل على حدا، ثم دولة قطر بـ3%، ومملكة البحرين والهند ونيوزلاندا بحوالي 2% لكل منهم، وسويسرا 1%.

نقطة أخرى تتعلق بالتوزيع الجغرافي للاستثمار الأجنبي المباشر، تتمثل في تركز جهود جذب 87% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة فقط على 10 دول مع عدم الالتفات إلى باقي دول العالم.

ولتحقيق النجاح في إدارة ملف جذب الاستثمارات الأجنبية، سبق أن أشرنا- في كتابات سابقة- إلى أنه يجب التعامل معه وفق إطار شمولي وجهود منسجمة، وأن هناك عملًا كبيرًا ينبغي القيام به، وإجراء تغييرات مهمة في مفاصل الاقتصاد، تصب في صالح تحسين مناخ الاستثمار، وتهيئة الظروف المواتية لجذب الاستثمارات، وذلك من خلال: تحسين مستوى الشفافية والوضوح في التشريعات المُنظِّمة لأنشطة الاستثمار، وتبسيط إجراءات الدخول للاستثمار والسياحة، وتعزيز حماية حقوق المستثمرين، وتحسين آليات تسوية المنازعات، وكذلك تحسين إدارة الضرائب والقدرة على التنبؤ بها من قبل المستثمرين، إضافة الى تحسين وتطوير علاقات الإنتاج والمُعاملات بين المستثمرين الأجانب والشركات المحلية. كما يجب اتخاذ تدابير تشغيلية فعّالة ووضع آلية جديدة لجذب الاستثمار من خلال تحديد وتوحيد المرجعية الاستثمارية وتطوير مناهج استباقية لاجتذاب الاستثمارات والاحتفاظ بها وتحسين الآليات المؤسسية لجذب وتوجيه ودعم المستثمرين.  

وبقي القول إن جهود جذب الاستثمار الأجنبي لا تقتصر وحسب على الحكومة (ممثلة في وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار)، والتي تبذل جهودًا ملموسة لاجتذابه، لكن ثمة أدوار مهمة تقع على عاتق غرفة تجارة وصناعة عُمان، ورجال الأعمال العُمانيين؛ لأنهم الأدرى بالفرص الاستثمارية في السلطنة، والأقدر على تسويقها، ويتمتعون بشبكة علاقات دولية مع شركاء تجاريين من مختلف الدول، ومن ثم عليهم التواصل معهم وإقناعهم بالاستثمار في السلطنة، وبناء شراكاتٍ معهم، من منطلق معرفتهم بتفاصيل مجتمع الأعمال في عُمان.

وهنا دعوة لتبني فلسفة جديدة، يكون فيها الجميع سفراءً لجذب الاستثمار؛ فالطلبة العُمانيون في الخارج واحتكاكهم بالشركات والأصدقاء بالخارج قادرون على الترويج لعُمان استثماريًا، أيضًا السياح العُمانيون في الخارج ولقاءاتهم بسياح وشركات، بإمكانهم التعريف بالمقومات الاستثمارية لعُمان. ويتعين أيضًا تعظيم الاستفادة من السياح الأجانب الذين يزورون السلطنة، وينبهرون بجمالها، من خلال إطلاعهم على مناخ الاستثمار في عُمان.

إنَّنا في أمسِّ الحاجة إلى كل جهد لدفع عجلة الاقتصاد العُماني إلى الأمام، والمساهمة في تغطية الفجوة الاستثمارية والتكنولوجية. وذلك يستوجب العمل وفق فكر جديد وخطة واضحة المعالم، لحشد هِمَم الأطراف المختلفة وتوجيهها لتحقيق الأهداف المنشودة.

وختامًا.. ما زالت عُمان بحكم موقعها الجغرافي المتميز، وجودة وشمولية البنية الأساسية، وتوافر الموارد الطبيعية الغنية، مكانًا جذابًا للاستثمارات، ويبقى علينا تطوير فلسفات جديدة تُسهم في جذب الاستثمار، والتحدث بلغة يفهمها المستثمرون، ووضع سلطنة عُمان على شاشات رادارات المُستثمرين، واستثمار مبالغ مالية في تجهيز وتحضير وربط الفرص بالمستثمرين، إلى جانب وضع سياسات محلية لمعالجة مؤشرات التراجع في بعض إحصاءات الاستثمار الأجنبي. وغير ذلك أو في حالة التمسك بالسياسات والأفكارالتقليدية، سنظل نتحرك في مكاننا، دون التقدم خطوة إلى الأمام، وسنواصل نردد ما قاله الجيل الماضي، بأن عمان تتميز بموقع جغرافي ومقومات جذب لا تُضاهى، وقطاعات اقتصادية واعدة، دون أن ينعكس ذلك على أرض الواقع في صورة تدفقات استثمارية مباشرة. بل ربما يصل بنا الحال أن يكرر الجيل القادم ذات الكلام إلى من سيأتي بعده!

فلنسارع في اقتناص الفرص التي تُرسلها لنا رياح التطوير التي تهب علينا الآن.