خالد بن سالم الغساني
يأتي إعلان دويلة الكيان المحتل اعترافها بما يسمى "جمهورية أرض الصومال"، متزامنًا مع انعقاد جلسة طارئة لمجلس الأمن، ليُعيد ملف الصومال إلى واجهة المشهد السياسي الدولي بعد سنوات طويلة من الغياب والتهميش والتجاهل.
هذا التوقيت، لا يمكن قراءته منفصلًا عن السياق الإقليمي خاصةً والدولي على وجه العموم، إنه يعكس التحول المدروس بدقة في مقاربة بعض القوى لمسألة إعادة تشكيل المنطقة، وإعادة فتح ملفات ظُن أنها طُويت أو أُجلت. والسؤال الذي يسابق بإلحاح، هو لماذا الصومال الآن؟ ولماذا يُعاد استحضاره فجأة بعد عقود من الخراب والتقسيم والإهمال المقصود؟
وللإجابة عن ذلك، لا بُد من العودة للتذكير بأهمية الصومال ومكانتها التي فرضتها الجغرافيا، ذلك أنها لم تكن يومًا وفقًا لكل الحسابات، دولة هامشية أو عبئاً جغرافياً كما صُوّرت طويلًا، إنها تمثل إحدى أهم النقاط الاستراتيجية في الإقليم؛ فهي تطل على خليج عدن والمحيط الهندي، وتشرف على أحد أكثر الممرات البحرية حساسية في العالم، وترتبط مباشرة بأمن باب المندب وحركة التجارة والطاقة الدولية؛ وهذه الجغرافيا وحدها كفيلة بأن تجعلها مركز اهتمام دائم للقوى الكبرى، لا سيما في ظل التنافس الدولي المتصاعد على النفوذ البحري والاقتصادي. غير أن هذه الأهمية لم تُترجم يومًا إلى مشروع استقرار حقيقي، بل استُخدمت ذريعة لتكريس التدخلات وإدامة حالة اللا دولة، حتى يتم الانتهاء من الملفات الأكثر إلحاحًا والتي تفرضها طبيعة الصراع والمطامع في الإقليم.
لقد تحولت الصومال، منذ انهيار مؤسساتها المركزية في تسعينيات القرن الماضي، إلى ساحة مفتوحة لتجارب سياسية وأمنية متناقضة، تُدار من الخارج أكثر مما تُبنى من الداخل. وبدل أن تكون موضع دعم عربي يعيد إدماجها في محيطها الطبيعي، تُركت عمدًا تواجه مصيرها، تُستنزف داخليًا وتُستثمر خارجيًا، تحت عناوين المرحلة، مثل "مكافحة الإرهاب" أو “حماية الملاحة الدولية”، بينما كانت النتيجة الواقعية مزيدًا من التشظي والفقر والاقتتال وإضعاف الدولة المركزية.
هنا وفي هذا السياق، يأتي الاعتراف بما يُسمّى “أرض الصومال” ليشكّل حلقة جديدة في مسلسل طويل من إعادة هندسة الجغرافيا السياسية للمنطقة. فهذا الاعتراف لا ينطلق من حرص على حق تقرير المصير، ولا من دعم للاستقرار بالتأكيد، بل من حسابات استراتيجية تهدف إلى تثبيت موطئ قدم دائم في القرن الإفريقي، وتأمين نفوذ قرب الممرات الحيوية، واستخدام التفكك كأداة نفوذ سياسي وأمني طويل الأمد.
واللافت في هذا المشهد، بل والمستغرَب، ليس فقط خطوة الكيان بحد ذاتها؛ بل استمرار حالة الصمم والصمت والعمى العربي الطويل التي سبقتها، وكأن الصومال ليست جزءًا من الجسد العربي، أو أن حضورها اقتصر على مقعد شاغر في جامعة الدول العربية لا أكثر. فقد اكتفت العواصم العربية، على مدى عقود، بالتعامل مع الصومال كملف هامشي يُدار بالبيانات الموسمية، فيما تحولت الجامعة نفسها إلى كيان أكثر جمودًا من مقاعدها، عاجز عن التفاعل الحقيقي مع ما يجري على أراضي دوله، أو عن بلورة موقف يتناسب مع حجم التحديات. هذا الجمود المؤسسي، الممزوج بالعجز السياسي، أتاح للقوى الخارجية أن تملأ الفراغ، وأن تتعامل مع الأقاليم الصومالية كوحدات مستقلة قابلة للتدويل والتوظيف، دون خشية من رد فعل عربي يُذكر.
ولا يمكن فصل هذا المسار عما شهدته المنطقة خلال العقود الأخيرة من تجارب مشابهة؛ من تقسيم السودان، إلى تفكيك العراق، إلى إنهاك ليبيا، وسقوط سورية، وصولًا إلى محاولات فصل الجنوب اليمني وخلق كيانات جديدة في حضرموت والمهرة. في كل مرة، يتكرر السيناريو ذاته: أزمة داخلية تُستثمر خارجيًا، ودعم انتقائي لقوى محلية، ثم شرعنة واقع جديد تحت مسميات مختلفة. وما يزيد خطورة هذا المشهد أن بعض الأطراف العربية كانت جزءًا من هذه المعادلة، إما بالصمت أو بالمشاركة أو بالحسابات الأنانية والضيقة، متناسين أن التجربة أثبتت أن من يساهم في تفكيك غيره، أو يراهن على النجاة عبر التحالفات الظرفية، لن يكون بمنأى عن المصير ذاته. فالمشروع الذي يقوم على تفكيك الدول لا يعرف حدودًا، ولا يعترف بولاءات، بل يتغذى على الضعف ويُعيد إنتاجه حيثما وُجد.
من هنا، فإنَّ أي موقف عربي رافض للاعتراف بالكيانات الانفصالية في الصومال لا ينبغي النظر إليه كتصريح دبلوماسي عادي، بل كمؤشر على بداية وعي متأخر بخطورة المسار القائم. فالصومال ليست كما تصور، قضية بعيدة أو هامشية، انها جزء من بقايا مرآة تعكس مآلات المنطقة بأسرها إذا استمر الغياب العربي عن ساحات التأثير الفعلي.
الصومال اليوم يقف على مفترق طرق حاسم: إما أن يُعاد الاعتبار لوحدته وسيادته ضمن رؤية عربية واعية، أو يُترك ليستكمل مسار التفكك حتى يتحول إلى نموذج دائم للفوضى المُدارة. وبين هذين الخيارين، يقف العرب أمام اختبار حقيقي لإرادتهم السياسية وقدرتهم على التعلم من دروس التاريخ.
فهل تكون هذه اللحظة بداية صحوة حقيقية، أم مجرد رد فعل متأخر يسبق سقوطًا آخر في سلسلة سقوط عتبات السُلّم العربي؟
