د. عبدالله باحجاج
صحيحٌ أنَّ عملية قطع الكهرباء والمياه عن الأُسر تجري وفق الإجراءات القانونية التي وضعتها الشركة المختصة، مثل تراكم الفواتير لثلاثة أشهر متتالية، وصحيحٌ كذلك أنها لا تلجأ للقطع إلّا بعد إنذارات نصية، وصحيحٌ أيضًا أن الشركة مرنة في تحصيل الفواتير؛ أي أنها لا تشترط دفع المبالغ كلها، لكن عملية القطع كإجراء عقابي مُؤلمة في حد ذاتها، وقد تشتت الأسر، وتضر بسمعتها الاجتماعية، وتلقي بظلالها السلبية على سيكولوجية أفراد الأسرة الواحدة، وقد تؤثِّر على التربية.. والتساؤل هنا: هل وراء عدم دفع الفواتير تقاعس ومماطلة أم عدم مقدرة مالية؟
القضية هنا ينبغي أن يحكمها اعتباران أساسيان؛ هما: أن القطع خط أحمر من حيث المبدأ؛ لأننا هنا أمام أهم خدمتين أساسيتين ينبغي تأمينها من كل الجهات التنفيذية الحكومية للمواطنين، مهما كانت ظروفهم المالية. والآخر: البحث الاجتماعي عن أسباب الامتناع عن الدفع، وهذا البحث تكمن أهميته الوجوبية بعد المتغيرات والتحولات الكبرى التي طرأت على الأوضاع المالية للأسر العُمانية منذ أكثر من 3 سنوات رغم نظام الشرائح الكهربائية، وفي ظل موجة الغلاء وتدني المرتبات.. إلخ.
ويوم الخميس الماضي، تلقينا اتصالات من مواطنين قُطعت عن منازلهم خدمات الكهرباء والمياه قبل استحقاقِ المرتبات، فهل اُختير التوقيت المناسب؟ وعلمنا من مصدر رسمي عن وجود حملة للقطع، فهل روعي قرب حلول شهر رمضان المبارك وضغوطاته على معظم الأسر؟ لا شرعية للقطع دون معرفة الأسباب الاجتماعية للتراكم، فليس الكل يتقاعس عن الدفع رغم مقدرته المالية، فهناك أسباب موضوعية للكثير من الأسر، وتفترضها الإحصائيات الرسمية، فمثلًا هناك أكثر من 85 ألف عُماني تقل رواتبهم عن 400 ريال في القطاع الخاص (إحصائية رسمية)، وهنا أقوى الافتراضات بوجود سببية موضوعية للتراكم، فما قيمة تلك المرتبات في حقبتنا الزمنية الراهنة؟!
وفي آخر المؤشرات الإحصائية للمتقاعدين حتى نهاية شهر يوليو 2022، نجد أن متوسط المعاش التقاعدي الشهري يبلغ 598 ريالًا، وبمتوسط العمر عند انتهاء الخدمة 50 سنة (إحصائية رسمية)، وتتدرج معاشات التقاعد من الأدنى إلى ذلك السقف بالآلاف، وهي تُصنَّف بين الضعيفة والمحدودة جدًا في ظل حالة غلاء المعيشة والضرائب والرسوم، وفي عُمر متوسطي وهو عُمر قمة الإنتاج، لكنه معطلٌ، ونعرفُ حالات لم يبق من معاشاتها التقاعدية سوى 200 ريال من أصل 600 ريال بسبب إحالتها للتقاعد الإجباري، دون الاعتداد بمديونيتها في البنوك، وحجم هذه المعاشات والمرتبات وعملية التسريح عن العمل، تُفسّر نظريًا أسباب التراكم والعجز عن الدفع الدائم أو المؤقت.
هنا منطقة استشرافٍ عميقة، نقول فيها بصراحة، إن كل حديث عن الرفاهية الأسرية في ظل قطع الكهرباء والمياه سيكون من قبيل الترف الفكري، وقد تصبح خدمات الكهرباء والمياه من الكماليات إذا لم تتم معالجة تأمين الحق المستدام للأسر في الكهرباء والمياه؛ لذلك فحَقُ القطع لا ينبغي أن يكون من صلاحية الشركات فقط، وإذا كان لا بُد، فينبغي إجراء البحث الاجتماعي أولًا قبل القطع، والاعتداد به.
يوم الخميس الماضي تواصلت مع الأخ سعيد الشحري نائب رئيس المجلس البلدي بمحافظة ظفار لحثه على التدخل العاجل لوقف القطع، وأفادني أن للمجلس رؤيةً لحل هذه القضية يتم التنسيق بشأنها مع صاحب السمو السيد مروان بن تركي آل سعيد محافظ ظفار بصفته رئيسًا للمجلس البلدي. وهنا نطالب بسرعة تقديم هذه الرؤية؛ فالقطع لا يرحم، وليس مسؤولًا عن مآلات الأوضاع الاجتماعية.
القضية العاجلة الآن هي وقف القطع للمُبررات سالفة الذكر، ويكفي القيام بها بتفاعلٍ واحد من أعضاء المجلس دون تحويل الأمر إلى رئاسة المجلس، لأن ذلك يخلق مركزيةً داخل اللامركزية، ويمس جوهر الاستقلالية التي تفرزها صناديق الانتخابات، واللجوء إلى الجماعة المؤسسية تكون في حالة تعذُّر الحصول على نتائج فورية، فمن يوم الخميس وحتى اليوم، هل أُلغيت أو تأجلت خطة القطع؟
وإذا ما وجدنا مسؤولًا ما، أو برز من يُبرر القطع دون بحث اجتماعي، فهو لا يعرف المآلات التي استجدت على المجتمع، والناطقة بها تلكم المرتبات والمعاشات، أو أنه يعيش متقوقعًا في ذاتية نفعه التي مُنحت له دون جهد أو عناء، ونستعينُ هنا بعبارةٍ عثرتُ عليها فجأة دون معرفة مصدرها، ونُقدمها لمثل هذه النوعية من البشر، وهي: "من يده في الماء ليس كمن يده في النار، ومن لمن يجرب الابتلاء ليس كمن جربه وذاقه وعانى من مراراته، وأسوأ الناس خلقًا ومروءة وعقلًا، من ينتقص من مِحَنِ الناس، ويمثل أدوارَ البطولة عليهم، وهو متكئ على أريكته لم يجربها ولم يختبرها، لأن الكلام شيء، والفعل والامتحان شيء آخر". وشتّان بين المقامين، فلا نصدر تُهمًا على المواطنين، ونحمّلهم قضية التراكم، وتقاعسهم عن الدفع دون وجود دراسات يستندون عليها، وهل هناك من حقائق دالة على الأسباب أكثر من الأرقام سالفة الذكر؟
نُجدد مطالبتنا لرئاسة المجلس البلدي بظفار التدخل العاجل لوقف القطع فورًا، وإقناع الشركات برؤية المجلس، وحتى يحدث ذلك، لا يُعذر بقية الأعضاء وخاصة المُنتخَبين من التحرك عاجلًا، فهذا من صميم شرعيتهم الاجتماعية التي تُفرزها صناديق الانتخابات؛ فشهر الحسنات على الأبواب، ولا يُعقل أن تستقبله الأسر بظلام المأوى، وحزن القلوب، وانكسار نفسيات الأولاد، ولا يُعقل أن يتشتت أفراد الأسرة، ويتعرضون للإحراجات الاجتماعية، ونقول لأعضاء المجلس البلدي إن المجتمع ما اختاركم إلّا من أجل الدفاع عن قضاياه، ومخاطبة الجهات الحكومية والرسمية للاعتداد بمصالحه، وهذه من أهم القضايا الاجتماعية فوق طاولتكم الآن، وما أحوجنا لرفع شعبية المجالس المنتخبة، وبلادنا تترقب انتخابات مجلس الشورى المقبلة.