عادات صراعُها مزمن!

 

معاوية الرواحي

 

فعلَ الزمنُ ما فعلَه بنا وبعاداتنا. ننتقلُ من تركيز العصافير إلى تركيز البراغيث. لا أقصد ليونيل ميسي في هذا السياق، أقصدُ هذا الذي وصلنا له في عصر النفثات السريعة "الرِيلَات Reels" كما تُسمى الآن.

في وقتٍ سابقٍ رفع خبراء مدرسة "التلقي ما له وما عليه" عقائرهم مصرِّين على الزمن المناسب لتدوينة من تدوينات اليوتيوب المرئية، عشر دقائق كثير! هكذا ينطق بعضهم بتقزز بالغ من أجل المتلقي العام، العالمي، المدلل، كثير الشروط، قليل المعرفة بمُنتج المادة الإبداعية. ربع ساعة كثير يا رجل! يجب ألا تتجاوز المادة خمس دقائق! وكنَّا نشتكي من ذلك الزمن! بل ونصفُ ربابنته الأشاوس بمختلف الصفات، ماذا عساهم أن يقولوا اليوم، في عصر التسعين ثانية، وعصر تويتر، وإيلون ماسك، والهلع العالمي عندما أصيبَ متلقي العصر الحديث في مقتلٍ بعد أن رفع عدد الحروف في التغريدة الواحدة! نعيش في عصرٍ نُسفَ فيه تركيزُنا نسفًا وتناثرت أشلاؤه بين التطبيقات، ذلك السناب الذي يزولُ بعد ليلةٍ واحدة ليقول لك واصل "دوبامينك" بحماسة، وفيروس "الحالات/ الستوريات" الذي ينزل مثل جهنم على مزاجك، رذاذٌ تحت ضغطٍ عالٍ يدغدغ أجهزة الإنسان العصبية ليجعله كما هو عليه، لاهثًا، يركض وراء الجديد كأنَّه يريد قراءة مكتبة الكونجرس ثم بعدها يبدأ في الحياة! ما الذي يعدنا به عصر الذكاء الصناعي والواقع الافتراضي؟ إن كانت هذه نهاية عصر الهواتف، والتطبيقات، بكل ما فيها من افتتان بالمزايا العصرية والتي معظمها تنحصر في طلب التاكسي، والطعام، أو تحويل النقود.

في الأربعين من العُمر وأشعرُ أنني أعيش في غير زمني، ماذا سأقول بعد عشر سنين عندما أرفض أن ألبس نظارة الواقع الافتراضي، أو أفضل الطريقة القديمة المتمثلة في الذهاب للمطعم بنفسي، ماذا سأفعل عندما أضطر لتقديم شكوى للذكاء الصناعي لروبوت غبي لم يقم إنسانٌ بصيانته وأضطر لملء استمارات متتالية لأثبت أنني لست أذكى من تلك الأنظمة الأوتوماتيكية المبرمجة في لوحة مفاتيح! أو ربما بتوجيهات صوتية، أو حتى لغة الإشارة، أي جنون يعدنا به العصر القادم!

إنَّ ما نفعله بأنفسنا بالانسياق وراء هذا النداء اللحظي له عواقبه الوخيمة على كل شيء. الفنان المسرحيُّ لم يعد يفكر في خشبة المسرح، أصبحت مرحلة مؤقتة يُنتج فيها القليل قبل أن ينتقل إلى صنع "الرِيلَات" السريعة، أو ما صار يسمى رسميا "المقاطع"، قليل من العمل ثم كثير من التشتت والتجزئة. الكاتبُ الذي في عصرٍ سابق كان عليه أن يفعل الكثير ليعترف به أصبح اليوم يوقع كتبه في معارض الكتاب مضطرا للتعايش مع أجيال النفس القصير، العازف انشغلَ بوضع مجموعة من المعزوفاتِ الصغيرة، وإعادة إنتاج أغنيات أخرى، الرسام يفكر بتصميم سريع. بقي النقاد والمفكرون يضربون الأخماس والأسداس في إيجاد مكانٍ لهم في الزمن الحديث، من هذا الذي سيتابع "بودكاست" مدته ساعتان؟ هؤلاء القلة الذين في يومٍ من الأيام كانوا قصيري النفس أمام جيل الندوات التي مدتها خمسة أيام، الزمن يفقد صبره، ومعه الإنسان يفقد تركيزه، وكما حولتنا الرأسمالية إلى آلات استهلاك، تحول أذهاننا إلى عقولٍ مشتتة، لا تستطيع أن تحيط بأي شيء علمًا، نريد أن نعرف شيئا واحدا عن كل شيء، ونواصل الحياة بهذا الشكل المدمر لأصالة الإبداع.

أين الكارثة؟

إنك مهما حاولت أن تعيش منعزلًا عن كوكب الشتات هذا، وعالم "التايملاين/ الخط الزمني" وعالم "الريلات/ المواد المرئية القصيرة"؛ فسوف يفوتك من هذا العالم الكثير، التاجر سيخسر، والمبدع لن يجد منصة انتشار، زمنٌ يلقِّنُ المهنيين في فنون الإبداع دروسًا من النجاح والقيود في آن واحد، يمكنك كسب الوفير من المال بمنصة واحدة، ويمكنك أيضا خسارةَ روحك الإبداعية وتقديم تنازلات متتالية فقط لأنَّك يجب أن تتأقلم مع ظروف الحياة وخيارات الجمع الكبير من البشر.

خذ دوبامينك وامضِ. ونحنُ ندفع الثمنَ كل يوم. أتساءَل عن آثار السنوات التي قضيتها في عالم النص القصير، ولا أشعر بالكثير من الحسرة، لقد تأسستُ على عالم النفس الطويل حتى خرج عن السيطرة، وأخرجُ عن عالم النفس القصير قبل أن يخرج عن السيطرة. لسبب ما، أقف عند ناصية الألف كلمة في المادة الواحدة راضيا عن ذلك، ولكنني لستُ مليئا بالنشوة كما أفعل عندما أكتب في تطبيق التدوين القصير "تويتر"، هُناك تتوقف حسرات الفلسفة عن إقلاق راحتي، وتحمل الكتابة شكلا علنيا من أحاديث السمر الشخصية بين الأصدقاء، يتدرعُ المرء بشخصيته العامَّة طوال اليوم. في زمن السوشال ميديا تنقلب الآيات، فالحفاظ على شخصيتك العامَّة "قناعك/ درعك" أصبح هو السهل، تمسكك بشكليات الحضور في العصر الحديث أصبحت النزعة التلقائية التي تعيشُها، الرقص في الشارع، والغناء في الأماكن العامَّة، والتباهي بالمثالية، بل والتنمر، وادعاء الفضيلة، كلها أصبحت هي السلوك الأصيل لنا كبشر. ما الذي أصبح صعبا؟ أصبح الصعب أن تكون نفسك! يا لعذاب الذي يصرُّ على أن يكون نفسه وما هو عليه في هذا الزمان المُربك!

نحن كبشر ننساق بسهولة وراء عوالم الشتات والأحاديث القصيرة. ألا نفعل ذلك عندما نذهب للعمل؟ ونقضي ثلاث ساعات نتحدث عن فوز ميسي بكأس العالم ثم نقضي ساعة ونصف في إنهاء الأعمال المطلوبة منها؟ نعم نفعل ذلك. العالم بأجمع يتحول إلى نسخة كبيرة من أحاديث الغرباء في غرفة التدخين في المطار، أو تعارف عجوزين في أوروبا في مقهى يقدم قهوةً بها 12 معلقة من السكر.

من الذي يريد قضاء الوقت؟ المعقدون نفسيًا! هؤلاء الذين يريدون الجلوس لثلاث ساعات مع صديق! هذا السلوك الذي نقضيه كبشر منذ آلاف السنين أصبح مستهجنًا، الحديث مدته خمس دقائق، والتواصل مدته ثلاث دقائق، وحتى اللقاء الذي يخرجُ فيه مجموعة من الأصدقاء يصبح ثقيلًا على النفس، يجب ألا يتجاوز الموضوع ثلاث دقائق قبل القفز لواحد آخر، سنعيش غربةً كبيرة في قادم الوقت مع الأجيال الجديدة، وسوف يفرضون علينا هذه المدرسة في الحياة. تغيرت أشياء كثيرة، وانتصر عصر النفس القصير، المؤسسات الرصينة انهارت تحت هذا الضغط، والعقول الصبورة اضطرت للتنازل أمام هذه العادات وصراعها المزمن. لقد انتصر عهد المبرمجين، وصناع الخوارزميات، ومهندسي "الزيارات" شكلًا، أما المضمون فلا ينتصر عليه أحد، ولعل هذه الحقيقة المطمئنة هي آخر الرهانات في هذا العصر الذي يمضي كل يوم إلى عالم النص القصير، وعالم الفيديو القصير، وعالم القصير، والقصير، والقصير!

أسئلة المبدع في عصر الانتشار السهل والساحق أصبحت مليئة بالمرارة. المتلقي يضع شرطه الصارم ويقول: من الذي سيقرأ كل هذا الكلام؟ ومن الذي سيتابع محاضرة مدتها ساعتان! أعانك الله أيها المراهن على الإبداع في هذا العصر المجنون بالسرعة والشتات!