كأس العالم "سوكا".. منظور شبه سيكولوجي!

 

معاوية الرواحي **

إنه لمرتعٌ خصب للغاية، هذه البطولات أعني، وبطولة كأس عالم تقام في العاصمة العُمانية مسقط! هذا أيضا مرتع خصب للغاية، للكتابة، وللحضور، وللتغطية، ولصناعة المحتوى، وربما للقليل من علم النفس، هذا التخصص الذي أدرسه الآن، وأكوِّن فيه أمنية الاستمرار في علم النفس الرياضي بعد سنين! دعني أتخلص من ورطة الدراسة الحالية، وسأفكر بورطتي في وقت لاحق.

لم تكن الصدف رحيمةً بهذه البطولة، والتي انطلقت في أقسى الظروف النفسية الممكنة، بعد أن عشعشت آليات الدفاع النفسي في الجماهير العريضة. شتان بين الاستقبال الحافل الذي نالته قافلة "صُنَّاع الرياضة" في ولاية نزوى بذلك الافتتاح المذهل، ولاحقًا في بطولتين الأولى في صلالة، والثانية في مسقط... إقبال هائل، وترحيب شعبي، والجميع ظنَّ الظنون العطرة والحسنة باستقبال بطولة كأس العالم، لولا هذا الذي حدث من ردة فعل ساخطة على الأحداث التي رافقت تجربة المنتخب العُماني لكرة القدم الكلاسيكية (11 لاعبًا)، وما تلى ذلك من موجة عارمة من الضيق، وللأسف الشديد، الضيق الجماهيري ليس رحيمًا بما يكفي لكي يتوقف عن شمول مشاريع أخرى، حتى وإن كانت في سياق آخر، وهذا ما جعل التحدي الذي تعيشه صناع الرياضة أكبر وأصعب.

منذ متى لم تكن الرياضة تحديًا؟

هذا هو جوهر الموضوع في عمقه! آليات الدفاع تعمل بكامل قوتها في الشارع الرياضي، وفي دولة ذات عدد سكان منخفض، فإن آلية مثل الإزاحة تعطي مفعولًا قويًا، وتبث روحًا من الإحباط، وغياب الاهتمام، ونعود إلى وضعنا السابق الذي نكرر فيه دائمًا مقولة (نحن شعوب ما مال رياضة/ نحن شعوب غير رياضية) وغيرها من الكليشيهات، التي ألفنا أن نعلك طعمها الباهت في أفواهنا.

بين التبرير، والفُكاهة، والسخرية، لا يخلو العالم العُماني من قليل من التسامي، وبعض الأصوات التائقة إلى البناء والتجديد والتي تواصل مشروعها البناء. وعلى أية حال كل إنسان حرٌّ تمامًا في مشاعره، كما أنا حُرٌ الآن في أن أصف هذه الرحلة التي أعيشها في بطولة كأس العالم سوكا 2024.

كان الهلع سيد الموقف، في بداية هذه البطولة، وأحيانًا بعد أن تفعل كل ما عليك، تنتظر لُطف الله بك، وبمشروع رياضي رائد. الفريق الإعلامي للبطولة أعاد ضبط السياق وتصويبه، هذه بطولة "هواة"، هذه الكلمة السحرية التي أوقفت بعض الساخطين من اعتبار هذه البطولة امتدادًا لأي مشروع احترافي، أو غيرها من مشاريع كرة القدم الكلاسيكية وتطلعاته الدولية، واعتبارها تمثيلًا رسميًا للسلطنة.

استغرق الأمر يومين على الأقل حتى تصل الرسالة، في محيط "مُكهرَب" بمعنى الكلمة، وآليات دفاع مُستنفرة جاهزة للفتك بأي خيبة متوقعة. العمل المؤسسي يسير على قدمٍ وساق، واللُطف الإلهي والتوفيق يحسم الموقف.

الأحمر السداسي! في انطلاقته الجميلة، أزاح بنجاحٍ باهرٍ تلك التوقعات المؤذية بالنفس، أننا على وعد مع خيبةٍ جديدة، ترسيخ مفهوم فريق الهواة، ومنتخب الهواة، وهذه الكلمة من الأساس في سياقات اللغة العربية مُستفِّزة بمعنى الكلمة، إن لم تكن كذلك من الأساس في كل اللغات، عمليات ذهنية معقدة كلها تحدث في وقت واحد، تغيير المفاهيم، الابتكار الرياضي، فضلًا عن وجود منظومة دولية، واتحاد عالمي من الأساس يقود حملة تغيير موازية لكرة القدم الكلاسيكية الكبيرة، يا إلهي، التعقيد فوق طاقتي على الإحاطة بالموضوع بأكمله!

انظر معي، "سوكا" في حد ذاتها صرخة تغيير في كرة القدم، شركة "صُنَّاع الرياضة" في حد ذاتها محاولة حقيقية لإحداث تأثير رياضي في السوق الرياضي، والأحلام أن تتحول الرياضة إلى مهنة، ومصدر رفد للحوض الاحترافي، إلى حين حدوث التبادل بعد سنين بين الهاوي الذي يحترف، والمحترف الذي يعتزل ويصبح هاويًا كما فعل ذلك الفرنسي الذي آلم طفولتنا بهزيمة البرازيل في كأس العالم، لولا عُمان لما كُنتُ سامحته أبدًا على هذا الجرح القديم في النفس، ولكن ما علينا، ليس وقت أحقادي الشخصية تجاه ذلك الفرنسي الذي هزم البرازيل!

كل هذا الاحتدام، بكل ما يحتاجه من قوة إعلامية، وطاقة إقناعية، ويبدأ في أصعب ظرف ممكن، دولة عدد سكانها قليل، ومجتمع ساخط بمعنى الكلمة على أداء المنتخب الوطني، وفريق يمارس التبرير المُسبق، وفريق يمارس التشاؤم الدفاعي، أما الإسقاط فقد وقع على رأس مدرب منتخبنا الوطني الذي لا أظن أن عالم كرة القدم وجماهيره يخفى عنه، وكل هذا في دولة عدد سكانها قليل! يا سلام! كل هذا يتراكم دفعة واحدة أمام شركة ذات طموح! ومع ذلك، وصلت الرسالة، بصعوبة، وبشقاء، وبجهود، وبتوفيق إلهي!

أنقذ المنتخب السداسي الموقف، والقلوب مُعلقة الآن في إكماله المشوار، من أجل هذه البطولة، ومن أجل هذه الرسالة، رسالة الهواة السداسية وصلت، صرخة إعادة كرة القدم من الاستلاب الرأسمالي وصلت، والأهم ملامح صناعة سوق رياضة الهواة قد ظهرت في تجربة دولية هي خير بداية. لا أعرف ما الذي سيفعله المنتخب في الأدوار القادمة، أتمنى حقًا من أجل الرياضة في عُمان أن تُرفع رايات النصر، لمشروع له ما بعده.

أضع يدي على قلبي وأتمنى أن تذهب فكرة رياضات الهواة إلى ما هو أبعد، وأكثر انتشارًا، لإنشاء هذا السوق وجمعه تحت مظلات مجموعة من الشركات الواعدة والتي مهما كان عددها، لن تكفي لري التعطش الرياضي لهذا المجتمع.

حضرت، اليوم، فعالية اتحاد سوكا الدولي، والتي أعلنت فيها المكسيك- كمُنظِّمة للنسخة المُقبلة-مساراتٍ متوازيةً، كلها تحمل راية المحاولة، محاولة لجعل كرة القدم تجمع العالم، ولإرساء رسائل الإخاء والمحبة بين الشعوب في هذا العالم المضطرب.

كما لا أستطيع لجم حماستي، أيضًا لا أستطيع إيقاف قلقي، خوفي من عدم استمرار هذه المسيرة المدهشة، والأمر الآن بيد اللُطف الإلهي، والذي أتمنى أن يسبغ نعمه على المنتخب العُماني، وأن يوفقه، وأن يأخذ هذه المسيرة إلى تجليات رياضية نبيلة.

قبل نهاية البطولة، أقول شكرًا لصُنَّاع الرياضة، شكرًا لاتحاد سوكا، شكرًا لمُبتكر هذه الفكرة الجميلة، وشكرًا للجماهير العُمانية التي أثبتت لنا أن الأشياء الصغيرة في الحجم كبيرة في المعنى، وأن الحلم ليس بعيدًا.

أصبح الآن بإمكاني أن أتخيَّل ابن أختي أوس لاعبًا في دوري سمائل لكرة القدم السداسية، وأصبح بإمكاني أن أتخيَّل بطولةً للهواة في عُمان، وأصبح بإمكاني أن أرى فكرة مبتكرةً تصنع سوقًا للرياضة في عُمان.

أرجو أن انطلاقة المنتخب كانت كافية لمسح الموسم السابق، ولإيقاف آليات الدفاع الشرسة التي استبدت بالنفوس، أرجو أن تكون نهاية هذه البطولة موسمًا من الجمال الكروي تأهَّل المنتخب أم لم يتأهل، وأرجو لهذه الحكاية أن تستمر، فما زال لديها الكثير لتحكيه، في عُمان، وفي خارج عُمان.

** مستشار "صُنَّاع الرياضة"

الأكثر قراءة