د. عبدالله باحجاج
كل التحليلات لم تنفذ حتى الآن إلى عُمق السبب الذي يقود التحولات التاريخية في منطقة الخليج- عربها وفرسها- بدءًا من علاقات مسقط والرياض، ووقوفًا عند ما يحدث بالتبعية من انفراجات كبرى من الوزن التاريخي في العلاقات السعودية الإيرانية، وانعكاساتها لحل القضايا الإقليمية.
ولنا في ترحيب جماعة أنصار الله في اليمن، وحزب الله في لبنان بعودة العلاقات بين الرياض وطهران- نموذجًا- وكل ما تركز عليه التحليلات يكمن في النتائج التي تظهر فوق السطح، وبدأت المسألة هنا، وكأن هذه الأزمات تنتظر عودة العلاقات بين الرياض وطهران وجوبًا، وفي المقابل بدت كأنَّ عودة هذه العلاقات وحل القضايا الإقليمية يستوجب أولًا أن يكون هناك مشترك استراتيجي مستدام بين مسقط والرياض يُبنى عليه مستقبل المنطقة.
لا يمكن لأي مراقب أن يتعمق في السبب لمعرفة ما يحدث الآن في الخليج دون أن يرجعه إلى يناير 2020، وهو عام تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في سلطنة عُمان، خلفًا للراحل السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وهو حدث سياسي مفصلي للمنطقة على وجه الخصوص، وسترتبط به أحداث أخرى ذات وزن تاريخي ثقيل. فبعد مرور عام فقط على حكمه بدأت الانفراجات التاريخية في العلاقات العُمانية السعودية؛ حيث شهد عام 2021 قمتين عُمانية وسعودية في نيوم ومسقط، استشرفنا من خلال نتائجهما في مقال تحليلي متخصص مستقبل انعكاساتهما على العلاقات الثنائية خاصة، والمنطقة عامة.
وهنا نستحضر الفقرة التالية من مقالنا ذاك: "لا يُمكن وصف ما خرجت به قمة مسقط العُمانية السعودية من نتائج كبرى، سوى اعتبارها شراكة القرن بين البلدين، ولها انعكاسات إقليمية كبرى، فهي تؤسس المصير البنيوي المشترك بين أكبر دولتين في المنظومة الخليجية من جهة، وتفتح آفاق السلام في منطقة الخليج- عربه وفرسه- وشبه الجزيرة العربية عامة، وتتوفر لها الآن كل مقومات النجاح؛ لأنها تؤسَّس بفكر برجماتي، وبمشاريع بينية مصيرية عملاقة". ويمكن مراجعة المقال المعنون باسم "6 ركائز تضمن ديمومة واستمرار العلاقات العُمانية السعودية".
وهذا الاستشراف يتحقق على الصعيدين العُماني والسعودي عبر ربط منظومة المصالح والمنافع للبلدين، واستغلال إمكانيات كلٍ منهما، وقد شهدنا توقيع الكثير من الاتفاقيات في مختلف المجالات بين البلدين، تجسّدت على صعيد الواقع بمشاريع كبرى مثل الطريق البري، ومنح الرياض أراضٍ في منطقة الدقم لإقامة صناعات كبرى، وتخزين النفط، كما يدرس الجانبان إقامة سكة قطار يربط الدقم بالرياض، وغيرها من المشاريع. بينما يتحقق الاستشراف بالتبعية على الصعيد السعودي الإيراني، وقد أصبح من المعلوم الدور العُماني في انفراج علاقات الرياض مع طهران، ونقل علاقاتهما من عودتها مجددًا إلى ربطها بمشتركات أمنية واقتصادية عميقة، ويُنتظر انعكاساتها الإيجابية على الأزمات اليمينة واللبنانية والعراقية.. إلخ.
ولو أعملنا الفكر، واجتهدنا في معرفة الدافعية المُنتِجة لمثل هذه التحوُّلات التاريخية التي تحدث بديناميكيةٍ هادئةٍ تُحوِّل العداوة القديمة الراهنة إلى صداقة مستدامة، سنجدُ أنها تكمنُ في وجود مشترك استراتيجي في التفكير بين مسقط والرياض، يقود علاقاتهما نحو آفاق غير مسبوقة، ويجعلهما يعملان على حل القضايا الإقليمية بتنسيق رفيع حتى لو تطلب الأمر جهدًا ثنائيًا مشتركًا، وذلك بغية تغيير الخارطة الجيوسياسية في المنطقة في ظل السباق الدولي نحو إقامة تحالفات لتشكيل نظام عالمي مُتعدد الأقطاب.
وطبيعة المشترك الاستراتيجي هنا قد يكون سياسيًا أو فكريًا أو جغرافيًا، أو يكون جميعها، ودون هذا المشترك الثنائي بين مسقط والرياض، لا يمكن رؤية المتغيرات التاريخية الكبرى في المنطقة والتي من آخر إنتاجاتها عودة العلاقات السعودية الإيرانية وفق منظور استغلال المشترك دون الاستفراد أو الإقصاء، وإنما تعميم النفع العام والازدهار على كل الشركاء، وهو طموح يستهدف كل دول المنطقة وفق فلسفة معلنة، تدور حول ربط الاستقرار بالازدهار.
وطبيعة التفكير الاستراتيجي بين مسقط والرياض تتجاوز الوقتية، وتؤسس للبلدين حقبة اعتمادية ذات منافع متبادلة من منظور استغلال الموقع الجغرافي لكليهما؛ حيث يقعان على بحرين ذوي أهمية جيوسياسية، وهما بحر العرب بالنسبة لعُمان، والبحر الأحمر بالنسبة للسعودية؛ مما يجعل خياراتهما على المنافذ البحرية مفتوحة وآمنة بصورة دائمة، ويجعلهما- وخاصة الرياض- تمضي قدمًا في خططها الاقتصادية الضخمة، بعيدًا عن هواجس مضيق هرمز، لكنها تحتاج إلى الاستقرار الإقليمي، وعلاقات جوارٍ ذات ثقةٍ، لكي تحقق طموحاتها الاقتصادية نحو العالمية.
التفكير الاستراتيجي هو إحدى أهم العمليات العقلية؛ بمعنى أن كل ما يحدث من تطورات في علاقات مسقط والرياض، وعلاقات الرياض وطهران، وما قد يحدث لاحقًا، هو نِتاج العلمية البرجماتية المُجرَّدة من أية هواجس مُعرقِلة لعلاقاتهما، والمُنفتحة على مصالحها المشتركة، ولا نستبعدُ أن يكون من استهدافات العملية العقلية إحباط مخطط إقامة تحالف شرق أوسطي بقيادة الكيان الصهيوني ضد طهران، وفي الوقت نفسه، تحييد التدخُلات الإيرانية في دول المنطقة، خاصة وأن هذه الدول في صيرورة إصلاحات مالية واقتصادية واجتماعية قد تسهّل على مجتمعاتها عمليات الاختراق... إلخ.