حاتم الطائي
◄ دور عميق الأثر للدبلوماسية العُمانية في السلام بين السعودية وإيران
◄ انتصار إرادة السلام يقطع الطريق على دعاة الحروب والفتن
◄ الصين تؤكد مكانتها كقوة عظمى في عالم اليوم
لم يكُن الحديث يومًا عن السلام وحتمية ترسيخه في منطقتنا من باب التنظير، ولا بهدف دغدغة مشاعر البعض، أو إرضاء طرف؛ بل كان مُنطلِقًا من قناعة ثابتة بأنَّ التنمية لن تتحقق في محيطنا الإقليمي، والعالم أجمع، دون سلام بنّاء يعطي كل ذي حقٍ حقه، ويوصد باب الحروب، ويطفئ نيران الفتن والنزاعات، وما كان الاتفاق السعودي الإيراني- قبل يومين- على استئناف العلاقات الدبلوماسية، سوى تأكيد جديد على أطروحة "السلام أولًا وأخيرًا".
والدور العُماني المؤثر والفاعل في هذا الاتفاق، جليٌ وأشاد به مُختلف الأطراف؛ سواء السعودي أو الإيراني، وهو يعكس الثوابت السياسية لعُمان، فلطالما دعت السلطنة- عبر دبلوماسيتها الرصينة وحكمتها المعهودة وصلابة موقفها الذي لا يتزعزع- إلى تبني السلام خيارًا وحيدًا كي تنجو المنطقة من براثن الحروب التي أعيتها وتسببت في تأخرها عن الركب الحضاري لعقود طويلة؛ بل وأشعلت أتون فتن ومعارك دمرت بُلدانًا بأكملها، وكادت تقضي على جزء كبير من الموروث الحضاري لهذه المنطقة.
ولا شك أنَّ الإسهام العُماني ترجم كذلك حجم التقدير والاحترام الذي تُكنّه دول المنطقة والعالم لوطننا الغالي، وبرهن على أنَّ نهج السلام العُماني بات الخيار الأفضل والأنسب، لما تتميز به عُمان من رؤية بعيدة المدى وعميقة الأثر وواضحة الهدف، ولنا أن ننظر في مختلف المواقف والأزمات التي اعتصرت منطقتنا، على مر العقود المنصرمة؛ حيث كانت الرؤية العُمانية هي الوحيدة التي تميزت بوضع أولوية السلام فوق كل اعتبار، ورفضت القطيعة مع أي دولة، كما لم تدخل في صراعات أو تحالفات عسكرية أو تكتلات سياسية لا تخدم سوى المصالح الضيقة والآنية. وفي المقابل، سعت عُمان بكل جهدها وطاقتها أن تشارك مختلف الدول جهود تحقيق السلام والتنمية، وظلت تضع ثوابتها الوطنية على رأس الأولويات، وتواصل جهودها من أجل رأب الصدع بين الفرقاء، والأهم من ذلك كله أنها تمارس دبلوماسيتها الحصيفة دون صخب إعلامي وبلا تكلّفٍ أو مُباهاةٍ، ولكن في هدوء وصمت، يعكسان السمت العُماني الأصيل، الحريص على بلوغ الأهداف وتحقيق الغايات بكل تواضعٍ وبعيدةً كل البُعد عن أي خيلاء أو تبختُر.
لقد انتصرت إرادة السلام، ووُئدت رغبات الحرب، وذهبت دوافع الفتن بلا رجعة.. غُرست بذور السلام في تراب إقليمنا؛ كي تنبُت أشجار التعاون والشراكة بين شعوبٍ تجتمعُ على دينٍ واحدٍ، ويتشاركون الحدود الجغرافية، ويتشابهون في الكثير من العادات والتقاليد. عَلَتْ كلمة السلام والوئام والعيش المشترك، وتلاشت عبارات الصراع والمناوشات هنا وهناك.. الآن يضع الجميع أسلحتهم، ليرفعوا رايات الدبلوماسية، ويعلنوها صراحةً، أن المستقبل يحمل الخير والنماء لكل شعوب المنطقة، فلا طاقة لنا اليوم ولا غدًا لأيِّ صراع أو حرب، ولا مناص الآن من ترسيخ السلام وتثبيت جذوره في الأرض، ولو كره الكارهون!
الاتفاق المُفاجئ بين أكبر قوتين في المنطقة: السعودية وإيران، يبعث بالعديد من الرسائل السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية؛ بل والاجتماعية كذلك؛ إذ إن دباجة الاتفاق- كما أوضحها البيان السعودي- تؤكد أنَّ الطرفين وضعا القواعد الحاكمة والأسس المتينة لطبيعة العلاقات الدبلوماسية التي من المُقرر البدء في استئنافها خلال مدة أقصاها شهران من تاريخ التوقيع. ويأتي في صدارة هذه القواعد: احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، كما تضمن الاتفاق تبادل السفراء ومناقشة سبل تعزيز العلاقات الثنائية، وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني بين البلدين، إلى جانب غيرها من الاتفاقيات في مجالات عدة، مثل الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب.
إذن نحن أمام دولتين قررتا تجاوز خلافات الماضي وتوتراته ونزاعاته، ليدخلا في علاقات نستطيع وصفها بـ"المنطقية"؛ إذ إنَّ إقامة علاقات بين جارين مسألة منطقية لا ينبغي إغفالها، لضمان ترسيخ التعاون وتحقيق العيش الآمن المشترك، وتعزيز جهود التنمية في شتى المجالات.
الاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، برعاية صينية، يؤكد مجددًا أن العالم القديم الذي كانت تتسيده أمريكا قد ولّى، وأن الصين- القوة العظمى الراغبة في إقامة علاقات وطيدة مع جميع الدول على أسس من التعاون البنّاء والشراكة النافعة- ستظل تواصل جهودها لتحقيق رؤيتها الطموحة لعالمٍ آمنٍ خالٍ من الصراعات، ومتشاركٍ في التنمية والاستقرار. فالعملاق الصيني يرى في علاقاته الخارجية سُبُل السلام والوئام، والرخاء والازدهار، بعيدًا عن علاقات الحروب والأسلحة الفتّاكة، والصراعات المسلحة التي ظلت تدور في حلقات مُفرغة، لا نهاية لها في العديد من المناطق الملتهبة حول العالم. ولذلك نقول بوضوح إن الدور الصيني في العالم يزداد قوةً بفضل مصداقيتها وحرصها على التنمية لا سواها، ورفضها للصراعات أيًا كانت، وسعيها الحثيث لبناء علاقات قوية مع جميع الدول، وخاصة الدول العربية والإقليمية.
ولذلك، نتوقع أن تشهد منطقتنا في المرحلة المقبلة جني ثمار السلام؛ فالمليارات التي كانت تُنفق على شراء الأسلحة لاستخدامها في حروب عبثية وحروب بالوكالة، ستتجه إلى شرايين التنمية، وأنهار التعمير والازدهار. فلقد استنُزفت خيرات هذه المنطقة ومواردها الضخمة، في إنفاق مئات المليارات من الدولارات على صفقات التسليح مع الولايات المتحدة، التي ظلت تُشعل الحروب واحدة تلو الأخرى، رغبة منها في إلهاء دول المنطقة عن الأهداف التي يجب السعي إليها، وعلى رأسها التنمية والرخاء الاقتصادي، وكانت دولة الاحتلال الإسرائيلي هي المستفيد الأكبر من كل قنبلة تسقط أو صاروخ يُقذف في منطقتنا؛ ولذلك نقول بكل يقين إن إسرائيل هي الخاسر الأكبر من هكذا اتفاق، وإسرائيل هي الكيان الوحيد في العالم الذي يعنيه أن يظل العرب وشعوب الشرق الأوسط في حالة صراع ونزاعات مُسلحة وغير مُسلحة، ولم لا وهي كيان استيطاني سرطاني قائم على نهب الأرض واغتصاب الأوطان وقتل الأبرياء بدماء باردة.
ويبقى القول.. إنَّ رسالتنا تؤكد بوضوح أن السلام هو الركيزة الأساسية وعمود خيمة التنمية في أوطاننا، فكفى حروبًا وصراعات، وكفى نزاعًا واقتتالا، وكفى فتنًا وأزمات، ولنتطلع إلى المستقبل بعينٍ يملؤها التفاؤل بالنماء والازدهار، وبرغبة صادقة في توثيق عُرى التعاون المُثمر، وتوطيد العلاقات البينية.. رسالتنا هي أن عُمان ستظل ترفرف بأجنحة السلام والعيش المشترك ونشر المحبة والوئام بين الدول، رافعةً راية الحياد الإيجابي، مؤمنةً بنجاعة رؤيتها ومصداقية نهجها بكل يقينٍ.. فليحل السلام على أوطاننا ولتنعم شعوبنا بالرخاء والاستقرار، فهذا حقُ الإنسان على هذه البسيطة.