دلالات الرعاية السَّامية

 

د. صالح الفهدي

يحملُ افتتاح حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- للأكاديمية السلطانية للإدارة، دلالاتٍ ذات أهميةٍ، وقيمةٍ، رأيتُ التوقف عندها لتسليط الضوءِ عليها.

الإِدارة بدايةً هي الركيزة الأَساسية التي تقومُ عليها الدُّول، وهي القاعدة الرئيسة التي تقوم عليها أية مؤسسة، فكلُّ جانبٍ آخر من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والفكرية والسياحية يقومُ على الإِدارة، لأنها بذرةُ الشجرة الكُبرى التي تتفرَّعُ منها بقيَّة الأَغصان، وتتدلَّى منها الثمرات، فإِن كانت البذرة صالحة، صلحت الشجرة بجميع ما فيها من غصونٍ وأوراق وأثمار، وإن كانت فاسدة فلا يُرجى من الشجرة نفعٌ ولا فائدة.

إذا عانت الدول في جانبٍ من جوانبها، فإِن الإشكالية الجوهرية هي الإدارة التي تشكِّل القلب الذي يضخُّ الدماء إلى باقي أجزاء الجسم فإِنْ تعطَّلت مهمَّته تعطلت أجزاءُ الجسم، يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: "لدينا فائض من السياسيين في العالم العربي، ولدينا نقص في الإداريين. أزمتنا أزمة إدارة وليست موارد.. انظر للصين واليابان لا يملكان موارد طبيعية أين وصلوا .. وانظر لدول تملك النفط والغاز والماء والبشر، ولا تملك مصيرها التنموي ..ولا تملك حتى توفير خدمات أساسية كالطرق والكهرباء لشعوبها".

ولا شكَّ إطلاقًا في أنَّ الدولة لا يمكنُ لها أن تدير نفسها في مختلف الجوانب والقطاعات إلا بقياديين أكفاء، وإداريين قديرين، فتتمكَّن بجهودهم من إدارةٍ رشيدةٍ لمواردها، وتوجيهها التوجيه الأمثل الذي يضمنُ لها نماءً لا تفريطَ فيه، وتقدُّمًا لا إِبطاء فيه. 

ومن هُنا كان توجِّه جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- منطلقًا من سعةِ إدراكه، وبُعد نظرته في إِيلاء الإدارة الأهمية التي تستحقَّها، لأنَّ الدول أول ما تقوم على الإِنسان، ولا يمكن وضع الثقة على كاهله لبناءِ الأوطان إلا بعد صناعته صناعةً حاذقة، واثقةً، مكينة. يقول الفيلسوف مالك بن نبي: "إن القيمة الأولى في نجاح أي مشروع اقتصادي هي الإنسان. ليس الإقتصادُ إنشاءُ بنكٍ وتشييد مصنع؛ بل هو قبل ذلك تشييد إنسان وتعبئة الطاقات الاجتماعية في مشروع تحركه ارداة حضارية"، لهذا كانت الإدارة أولويَّة بالنسبة إلى جلالة السلطان- حفظه الله- فأصدر مرسومًا سُلطانيًا ساميًا في الذكرى الثانية لتولِّيه مقاليد الحكم في عُمان وذلك في 11 يناير 2022م قضى بتأسيس الأكاديمية السلطانية للإدارة، ولم يقتصرُ الأمر على تأسيس الأكاديمية وحسب؛ بل إنَّ جلالته قد أكرمها برعايته الفخرية السامية- رعاهُ الله- وهي أكاديمية تهدف إلى تطوير القيادات الوطنية بمختلف مستوياتها الإدارية بالقطاعين العام والخاص عبر منظومة متكاملة من المراكز المتخصصة والمبادرات والبرامج التي تستند إلى أبرز مفاهيم وأساليب الإدارة الحديثة.

لقد سَبرَ جلالة السلطان برؤيته البصيرة الواقع، فوجد أن الإِدارة هي الدعامة الأَساسية التي تقومُ عليها البلاد، فإِن توفَّر القائد الحكيم، والإِداري القدير فإِن البلاد ستزدهرُ في جميع جوانبها الأُخرى، كما إنَّ الدولة بحاجة إلى رافدٍ مستمر يرفدها بالكفاءات القديرة التي تتسلَّح بالوعي العلمي وتمتلك الشخصيات القيادية لتتبوأ مناصب ومراكز مهمة تمكَّنها من صنع التغيير الإيجابي، شخصيات تمتلك المَكنة والقدرة على إدارة موارد الدولة، وعلى صنع التوجهات السليمة التي تضمن لها السير باضطراد نحو مستقبل مشرق، حافلٍ بالفرص السانحة، شخصيات تؤسس أجيالًا تعي مسؤولياتها الوطنية.

إنَّ جلالة السلطان لم يزرع البذرة وحسب؛ بل جاء بعد عامٍ واحدٍ ليرى ما أثمرته هذه البذرة، وليؤكِّد بحضوره السَّامي تعهُّده برعاية هذه الشجرة الإدارية التي ستثمرُ قادةً أصحابُ كفاءة، وإداريون أهلَ قدرة.

ومن هُنا فإِنَّ تأسيس الأكاديمية السلطانية للإِدارة تعدُّ من أهم المنجزات في بدايات عهد النهضة المتجددة التي يقودها بعزم وإرادة وحنكة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم سدَّد الله مساعيه لخيرِ وصلاح عُمان وشعبها.

لقد أدرك جلالة السلطان أنَّ كل بداية لا بد وأن تبدأ بالإِنسان فهو مؤسس الحضارات، وركيزة البناء الحضاري، بيد أن الإِنسان نفسه يحتاج إلى عناية ورعاية، يقول لي كوان يو مؤسس دولة سنغافورة: "لقد أدركنا الحكمة الصينية التي تقول سنة واحدة ضرورية لكي تنمو بذرة قمح، وعشر سنوات ضرورية لكي تنمو شجرة، ومائة ضرورية لكي ينمو إنسان، وعملنا على إنتاج مجتمع آمن ومستقر، وركزنا على الثقافة والفنون، فتمكنَّا من تكوين أشخاص قادرين على اختيار مواقعهم ووظائفهم يؤمنون بأن الحياة تستحق العناء من أجلهم وأجل أبنائهم".

لقد كانت الإدارة جديرة بالرعاية السامية لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- لكي تستفيد عمان من مخرجاتها في إدارة حكيمةٍ ورشيدة لجميع القطاعات التي تقوم عليها الدولة، وتراهنُ على ازدهاره في تحسين المعيشة لشعبها، وترقية مستويات العيش الرغيد فيها.

لا شكَّ أَنَّ الأَكاديمية السلطانية للإِدارة عليها واجبٌ جسيمٌ يتمثَّل في الاضطلاع بالأمانة الكبيرة التي حَمَّلها إياها سُلطان البلاد المعظم، فصناعة قادةٍ أكفاء، وإداريون متميِّزون ليس بالأَمر الهيِّن، وإنما يتطلَّبُ وعيًا عميقًا يوائمُ بين توجهات الدولة، والثقافة الوطنية، من جهةٍ والتوجهات العالمية في مختلف المجالات.

سنبقى متطلعين– بتفاؤل كبير- إلى مستقبلٍ قريبٍ نلمسُ فيه آثار الأكاديمية السلطانية للإدارة على واقع الإدارةِ في عُمان.