أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي **
إذا كانت هناك نظرية علمية ساهمت مساهمةً فاعلة في التطور التقني الذي نعيشه اليوم، فهي بلا شك نظرية "فيزياء الكم"، وما تفرّع عنها من نظريات؛ فهذه النظرية العلمية قفزت بالتقنيات المختلفة وكانت وراء انتشار أغلب التقنيات الحديثة من الهاتف النقال إلى الحواسيب وإلى السيارات الكهربائية وغيرها من التقنيات.
لكن هذه النظرية العملاقة سببت إرباكًا للعقل البشري ما بعده من إرباك، وزادت حدة الخصومة بين الفيزياء والفلسفة، فهذه النظرية العجيبة التي توصل إليها الإنسان تخالف البداهة التي بنى عليها الإنسان علومه المختلفة عبر آلاف السنين، ومع ذلك تقف بكل شموخ وكبرياء لتتحداه وتمرغ أنفه في التراب. فقد أبتْ هذه النظرية أن تستقيم مع البناء المعرفي للإنسان وسعت لأن تقلبه رأسًا على عقب، فإن صدّقنا بما تفصح عنه لن يبق من معرفتنا حجرٌ على حجر.
وحاول العلماء عبر أكثر من قرن من الزمن أن يحفروا ثقبًا صغيرًا في النظرية علهم ينجحون في ذلك، ولكن كانت النتيجة في صالح النظرية دومًا وما زالت، فلم تفشل النظرية في أي تجربة من التجارب؛ بل وقفت صامدة بكل كبرياء وخيلاء.
تُدعى هذه النظرية "ميكانيكا الكم" أو "فيزياء الكم"، لكننا هنا لن ندخل في تفاصيل هذه النظرية، فهناك كتبٌ كثيرة تناولت هذه النظرية بتفاصيل عديدة؛ بل ما سنقوم به هنا هو استخلاص إحدى الصور الغريبة التي رسمتها لنا هذه النظرية عن الكون وما فيه.
فلقد كانت النظرة المنبثقة عن الكون في فيزياء نيوتن وآينشتاين مبنيةً على أن المفاهيم الفيزيائية مفاهيم متصلة، فهي شبيهة ببساط مُمتد لا ثقوب فيه، وهو مفهوم يتماشى مع تصور الإنسان للطبيعة؛ فالضوء يشبه النهر الجاري الذي لا ينقطع، وكذلك الزمن وبقية المفاهيم الفيزيائية كالمكان والطاقة، إلّا أن المفهوم الأساسي والمحوري في نظرية الكم قائمٌ على فكرة تقول إن جميع المفاهيم الفيزيائية التي نعرفها كالطاقة والمكان والزمن ليست متصلة وممتدة كالبساط؛ بل هي كميات حُبيْبيَّة مُنفصلة.
النسبية نظرت إلى المفاهيم الفيزيائية وكأنها عجينة خبز تتمدد وتتقلص ولا ثقوب فيها، لكن نظرية الكم خطت خطوة إلى الخلف فقالت إن أصل هذه العجينة هو حبيبيات الطحين؛ فالمفهوم الفيزيائي منفصل عن بعضه، وليس ممتدًا كعجينة الخبز؛ بل هو منفصل كحبيبات الطحين!
قد يتساءل البعض ما الذي نعنيه بفكرة كميات حبيبية منفصلة ومحددة؟
لنأخذ مثالًا من حياتنا اليومية لتوضيح الفكرة.. الضوء مثلًا؛ فنحن في حياتنا اليومية نتعامل مع الضوء على أنه مادة فيزيائية متصلة لا فراغ بين أجزائها، لكن فيزياء الكم تنظر إلى الضوء على أنه وحدات (حبيبات) منفصلة وليست مادة فيزيائية متصلة، كما تنظر إلى المكان على أنه حبيبات منفصلة، فليس المكان نسيجًا متصلًا؛ بل كميات منفصلة، وينطبق الأمر ذاته على الزمن؛ فالزمن عبارة عن وحدات صغيرة منفصلة وكذلك الطاقة فهي كمّات محددة.
أولى المواصفات التي تطرحها فيزياء الكم للوحدات الفيزيائية هي مفهوم الحُبيْبيَّة أو الانفصال، ومفردة "الكم" إشارة إلى ذلك؛ فالكون في بنيته الأساسية حسب ما تذهب إليه هذه النظرية، عبارة عن كميات حُبيْبيَّة منفصلة، لا اتصال بينها، فالمكان عبارة عن كميات منفصلة، وكذلك الزمان والطاقة ولنا أن نتساءل ما هو الشيء الموجود بين هذه الحُبيْبات؟
فعندما نقول إن المكان عبارة عن حبيبات منفصلة عن بعضها البعض، فما هو الشيء الموجود بين هذه الحبيبات؟ تجيب ميكانيكا الكم أنه لا شيء بينها، وهكذا الحال في الطاقة والزمن، فهما كمّات منفصلة، لكن في الوقت نفسه لا يفصل بينها أي شيء، وهو أمر كما ترى يقض مضاجع العقلاء ولا يمكن تصوره، فكيف يكون هناك عدم (حتى الفراغ لا يتواجد) بين شيئين منفصلين؟!
هكذا فإنَّ عالم الكم يصور لنا الكون بحالة غريبة ومزعجة للغاية؛ فالكون قائمٌ على وحدات صغيرة للغاية ومنفصلة عن بعضها، وهذه الوحدات الصغيرة تم حسابها بدقة فائقة؛ فمثلًا أصغر قيمة للطول هي وحدة لقياس المكان وتعادل 10 مرفوعاً إلى سالب 33 سنتيمترًا (سم)، وهي كما ترى وحدة صغيرة للغاية، لكن ما يعني ذلك أن المكان ليس نسيجًا متصلًا؛ بل وحدات صغيرة معروفة لا يفصل بينها شيء. وتقول النظرية عندما نذهب لأقل من هذا الطول (10 مرفوعًا إلى سالب 33 سنتيمترًا) فإن مفهوم المكان يختفي، فلا وجود له، ولا معنى له، فمفهوم المكان منعدمٌ بعد هذا الطول بمعناه الفيزيائي، لا بمعناه الرياضي فحسب. والأمر نفسه ينطبق على مفهوم الزمن، فأصغر وحدة زمنية هي 10 مرفوعًا إلى سالب 44، وينعدم مفهوم الزمن عندما نذهب لزمن أصغر منه، فلا وجود له!
من هنا.. فإن التساؤل الذي طرحه البعض: هل هذه النظريات العلمية تمثل الواقع الخارجي بحق، أم إنها نماذج رياضية خلقها العقل البشري ليستفيد منها وأنها لا تمت إلى الواقع الخارجي بصلة؟ واذا كانت لا تمت إلى الواقع الخارجي بصلة، إذن كيف لها أن تُحقق كل هذا النجاح وتقف بكل شموخ وكبرياء لتنجح في جميع التجارب التي حاول العلماء القيام بها لإثبات خطأها؟!
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
**********************************
لمزيد من الاطلاع على النظرية:
- ريتشارد فاينمان، "طبيعة القوانين الفيزيائية"، ترجمة الدكتور أدهم السمان.
• كاسي. س. د، "هايزنبرك والارتياب والثورة الكمومية"، مجلة العلوم م 8 ، 7 يوليو 1992.
- Carlo Rovelli, Seven Brief Lessons on Physics
- Arthur Beiser, Concepts of Modern Physics